(مَا
نَزَلَ فِي الْأَحْبَارِ):
فَفِي هَؤُلَاءِ مِنْ أَحْبَارِ
يَهُودَ، وَالْمُنَافِقِينَ مِنْ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ، نَزَلَ صَدْرُ سُورَةِ
الْبَقَرَة إِلَى الْمِائَة مِنْهَا- فِيمَا بَلَغَنِي- وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
يَقُولُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ
وَبِحَمْدِهِ: الم ذلِكَ الْكِتابُ لَا رَيْبَ فِيهِ ٢: ١- ٢، أَيْ لَا شَكَّ
فِيهِ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: قَالَ
سَاعِدَةُ بْنُ جُؤَيَةَ [١] الْهُذَلِيُّ:
فَقَالُوا عَهِدْنَا الْقَوْمَ قَدْ
حَصَرُوا بِهِ ... فَلَا رَيْبَ أَنْ قَدْ كَانَ ثَمَّ لَحِيمُ [٢]
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ
لَهُ، وَالرَّيْبُ (أَيْضًا): الرِّيبَةُ. قَالَ خَالِدُ بْنُ زُهَيْرٍ
الْهُذَلِيُّ:
كَأَنَّنِي أَرْبِبُهُ بِرَيْبٍ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَمِنْهُمْ
مَنْ يرويهِ:
كأننى أريته بِرَيْبٍ
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي أَبْيَاتٍ [٣]
لَهُ. وَهُوَ ابْنُ أَخِي أَبِي ذُؤَيْبٍ الْهُذَلِيُّ.
هُدىً لِلْمُتَّقِينَ ٢: ٢، أَيْ
الَّذِينَ يَحْذَرُونَ مِنْ اللَّهِ عُقُوبَتَهُ فِي تَرْكِ مَا يَعْرِفُونَ مِنْ
الْهُدَى، وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ بِالتَّصْدِيقِ بِمَا جَاءَهُمْ مِنْهُ.
الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ
يُنْفِقُونَ ٢: ٣ أَيْ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ بِفَرْضِهَا، وَيُؤْتَوْنَ
الزَّكَاةَ احْتِسَابًا لَهَا. وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ
وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ ٢: ٤، أَيْ يُصَدِّقُونَكَ بِمَا جِئْتَ بِهِ مِنْ
اللَّهِ عز وجل، وَمَا جَاءَ بِهِ مَنْ قَبْلُكَ مِنْ الْمُرْسَلِينَ، لَا
يُفَرِّقُونَ بَيْنَهُمْ، وَلَا يَجْحَدُونَ مَا جَاءُوهُمْ بِهِ مِنْ رَبِّهِمْ.
وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ٢:
٤، أَيْ بِالْبَعْثِ وَالْقِيَامَةِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَالْحِسَابِ
[١] فِي م، «جؤبة»، بِالْبَاء الْمُوَحدَة،
وَهُوَ تَصْحِيف.
[٢]
حصروا بِهِ: أَحدقُوا. ولحيم: أَي قَتِيل.
[٣]
وَقد قَالَهَا خَالِد حِين اتهمه أَبُو ذُؤَيْب بامرأته، والأبيات هِيَ:
يَا قوم مَا لي وَأَبا ذُؤَيْب ...
كنت إِذا أَتَيْته من غيب
يشم عطفي ويبر ثوبي ... كأننى أريته
بريب
وَالْمِيزَانِ، أَيْ هَؤُلَاءِ
الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا كَانَ مِنْ قَبْلِكَ، وَبِمَا
جَاءَكَ مِنْ رَبِّكَ أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ ٢: ٥، أَيْ عَلَى نُورٍ
مِنْ رَبِّهِمْ وَاسْتِقَامَةٍ عَلَى مَا جَاءَهُمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ
٢: ٥، أَيْ الَّذِينَ أَدْرَكُوا مَا طَلَبُوا وَنَجَوْا مِنْ شَرِّ مَا مِنْهُ
هَرَبُوا. إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا ٢: ٦، أَيْ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْكَ، وَإِنْ
قَالُوا إنَّا قَدْ آمَنَّا بِمَا جَاءَنَا قَبْلَكَ سَواءٌ عَلَيْهِمْ
أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ٢: ٦، أَيْ أَنَّهُمْ
قَدْ كَفَرُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنْ ذِكْرِكَ، وَجَحَدُوا مَا أُخِذَ عَلَيْهِمْ
الْمِيثَاقُ لَكَ، فَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكَ وَبِمَا عِنْدَهُمْ، مِمَّا
جَاءَهُمْ بِهِ غَيْرُكَ، فَكَيْفَ يَسْتَمِعُونَ مِنْكَ إنْذَارًا أَوْ
تَحْذِيرًا، وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنْ عِلْمِكَ. خَتَمَ اللَّهُ عَلى
قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ ٢: ٧، أَيْ عَنْ
الْهُدَى أَنْ يُصِيبُوهُ أَبَدًا، يَعْنِي بِمَا كَذَّبُوكَ بِهِ مِنْ الْحَقِّ
الَّذِي جَاءَكَ مِنْ رَبِّكَ حَتَّى يُؤْمِنُوا بِهِ، وَإِنْ آمَنُوا بِكُلِّ مَا
كَانَ قَبْلَكَ، وَلَهُمْ بِمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ خِلَافِكَ عَذَابٌ عَظِيمٌ.
فَهَذَا فِي الْأَحْبَارِ مِنْ
يَهُودَ، فِيمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ الْحَقِّ بَعْدَ مُعْرِفَتِهِ.
(مَا
نَزَلَ فِي مُنَافِقِي الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ):
وَمن النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا
بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ ٢: ٨ يَعْنِي
الْمُنَافِقِينَ مِنْ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ، وَمَنْ كَانَ عَلَى أَمْرِهِمْ.
يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ
وَما يَشْعُرُونَ. فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ٢: ٩- ١٠، أَيْ شَكٌّ فَزادَهُمُ
اللَّهُ مَرَضًا ٢: ١٠، أَيْ شَكًّا وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا
يَكْذِبُونَ. وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ، قالُوا إِنَّما
نَحْنُ مُصْلِحُونَ ٢: ١٠- ١١، أَيْ إنَّمَا نُرِيدُ الْإِصْلَاحَ بَيْنَ
الْفَرِيقَيْنِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ. يَقُولُ اللَّهُ
تَعَالَى أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لَا يَشْعُرُونَ.
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما
آمَنَ النَّاسُ، قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ، أَلا إِنَّهُمْ هُمُ
السُّفَهاءُ وَلكِنْ لَا يَعْلَمُونَ. وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا
آمَنَّا، وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ ٢: ١٢- ١٤ مِنْ يَهُودَ، الَّذِينَ
يَأْمُرُونَهُمْ بِالتَّكْذِيبِ بِالْحَقِّ، وَخِلَافِ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ
قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ ٢: ١٤، أَيْ إنَّا عَلَى مِثْلِ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ.
إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ ٢: ١٤: أَيْ إنَّمَا نَسْتَهْزِئُ بِالْقَوْمِ،
وَنَلْعَبُ بِهِمْ. يَقُولُ
اللَّهُ عز وجل: اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ
وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ ٢: ١٥.
(تَفْسِيرُ
ابْنِ هِشَامٍ لِبَعْضِ الْغَرِيبِ):
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: يَعْمَهُونَ:
يَحَارُونَ. تَقُولُ الْعَرَبُ: رَجُلٌ عَمِهٌ وَعَامِهٌ: أَيْ حَيَرَانُ قَالَ
رُؤْبَةُ بْنُ الْعَجَّاجِ يَصِفُ بَلَدًا:
أَعْمَى الْهُدَى بِالْجَاهِلِينَ
الْعُمَّهِ
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي أُرْجُوزَةٍ
لَهُ. فَالْعُمَّهُ: جَمْعُ عَامِهٍ، وَأَمَّا عَمِهٌ، فَجَمْعُهُ: عَمِهُونَ.
وَالْمَرْأَةُ: عَمِهَةٌ وَعَمْهَاءُ.
أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا
الضَّلالَةَ بِالْهُدى ٢: ١٦: أَيْ الْكُفْرِ بِالْإِيمَانِ فَما رَبِحَتْ
تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ ٢: ١٦.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: ثُمَّ ضَرَبَ
لَهُمْ مَثَلًا، فَقَالَ تَعَالَى كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا
أَضاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لَا
يُبْصِرُونَ ٢: ١٧ أَيْ لَا يُبْصِرُونَ الْحَقَّ وَيَقُولُونَ بِهِ حَتَّى إذَا
خَرَجُوا بِهِ مِنْ ظُلْمَةِ الْكُفْرِ أَطْفَئُوهُ بِكُفْرِهِمْ بِهِ
وَنِفَاقِهِمْ فِيهِ، فَتَرَكَهُمْ اللَّهُ فِي ظُلُمَاتِ الْكُفْرِ فَهُمْ لَا
يُبْصِرُونَ هُدًى، وَلَا يَسْتَقِيمُونَ عَلَى حَقٍّ. صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ
لَا يَرْجِعُونَ ٢: ١٨: أَيْ لَا يَرْجِعُونَ إلَى الْهُدَى، صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ
عَنْ الْخَيْرِ، لَا يَرْجِعُونَ إلَى خَيْرٍ وَلَا يُصِيبُونَ نَجَاةً مَا
كَانُوا عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ
وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ
حَذَرَ الْمَوْتِ، وَالله مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ ٢: ١٩.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: الصَّيِّبُ:
الْمَطَرُ، وَهُوَ مِنْ صَابَ يَصُوبُ، مِثْلُ قَوْلِهِمْ:
السَّيِّدُ، مَنْ سَادَ يَسُودُ،
وَالْمَيِّتُ: مَنْ مَاتَ يَمُوتُ، وَجَمْعُهُ: صَيَائِبُ. قَالَ عَلْقَمَةُ بْنُ
عَبَدَةَ، أَحَدُ بَنِي رَبِيعَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ زَيْدِ مَنَاةَ بْنِ تَمِيمٍ:
كَأَنَّهُمْ صابت عَلَيْهِم حابة ...
صَوَاعِقُهَا لِطَيْرِهِنَّ دَبِيبُ
وَفِيهَا:
فَلَا تَعْدِلِي بَيْنِي وَبَيْنَ
مُغَمَّرٍ [١] ... سَقَتْكَ رَوَايَا الْمُزْنِ حَيْثُ تَصُوبُ
[١] المغمر: الّذي لم يجرب الْأُمُور.
وَهَذَانِ الْبَيْتَانِ فِي
قَصِيدَةٍ لَهُ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: أَيْ هُمْ
مِنْ ظُلْمَةِ مَا هُمْ فِيهِ مِنْ الْكُفْرِ وَالْحَذَرِ مِنْ الْقَتْلِ، مِنْ
الَّذِي هُمْ عَلَيْهِ مِنْ الْخِلَافِ وَالتَّخَوُّفِ لَكُمْ، عَلَى مِثْلِ مَا
وُصِفَ، مِنْ الَّذِي هُوَ (فِي) [١] ظُلْمَةِ الصَّيِّبِ، يَجْعَلُ أَصَابِعَهُ
فِي أُذُنِيهِ مِنْ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ.
يَقُولُ [٢]: وَاَللَّهُ مُنْزِلُ
ذَلِكَ بِهِمْ مِنْ النِّقْمَةِ، أَيْ هُوَ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ يَكادُ
الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ ٢: ٢٠: أَيْ لِشِدَّةِ ضَوْءِ الْحَقِّ كُلَّما
أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ، وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا ٢: ٢٠، أَيْ
يَعْرِفُونَ الْحَقَّ وَيَتَكَلَّمُونَ بِهِ، فَهُمْ مِنْ قَوْلِهِمْ بِهِ عَلَى
اسْتِقَامَةٍ، فَإِذَا ارْتَكَسُوا مِنْهُ فِي الْكُفْرِ قَامُوا مُتَحَيِّرِينَ.
وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ ٢: ٢٠، أَيْ لِمَا
تَرَكُوا مِنْ الْحَقِّ بَعْدَ مَعْرِفَتِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ
قَدِيرٌ ٢: ٢٠.
ثُمَّ قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ
اعْبُدُوا رَبَّكُمُ ٢: ٢١، لِلْفَرِيقَيْنِ جَمِيعًا، مِنْ الْكُفَّارِ
وَالْمُنَافِقِينَ، أَيْ وَحِّدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ
قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ. الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشًا،
وَالسَّماءَ بِناءً، وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ
الثَّمَراتِ رِزْقًا لَكُمْ، فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدادًا وَأَنْتُمْ
تَعْلَمُونَ ٢: ٢١- ٢٢.
(تَفْسِيرُ
ابْنِ هِشَامٍ لِبَعْضِ الْغَرِيبِ):
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: الْأَنْدَادُ:
الْأَمْثَالُ، وَأَحَدُهُمْ نِدٌّ. قَالَ لَبِيدُ بْنُ رَبِيعَةَ:
أَحْمَدُ اللَّهَ فَلَا نِدَّ لَهُ
... بِيَدَيْهِ الْخَيْرُ مَا شَاءَ فَعَلَ
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قصيدة لَهُ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: أَيْ لَا
تُشْرِكُوا باللَّه غَيْرَهُ مِنْ الْأَنْدَادِ الَّتِي لَا تَنْفَعُ وَلَا
تَضُرُّ، وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَا رَبَّ لَكُمْ يَرْزُقكُمْ غَيْرُهُ،
وَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّ الَّذِي يَدْعُوكُمْ إلَيْهِ الرَّسُولُ مِنْ تَوْحِيدِهِ
هُوَ الْحَقُّ لَا شَكَّ فِيهِ. وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى
عَبْدِنا ٢: ٢٣ أَيْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ، فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ
مِثْلِهِ، وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ ٢: ٢٣،
[١] زِيَادَة عَن أ، ط.
[٢]
كَذَا فِي أ، ط. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «يَقُول الله وَالله ... إِلَخ»
.
أَيْ مَنْ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ
أَعْوَانِكُمْ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ، فَإِنْ لَمْ
تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا ٢: ٢٣- ٢٤ فَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ الْحَقُّ
فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ
٢: ٢٤، أَيْ لِمَنْ كَانَ عَلَى مِثْلِ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ الْكُفْرِ.
ثُمَّ رَغَّبَهُمْ وَحَذَّرَهُمْ
نُقْضَ الْمِيثَاقِ الَّذِي أَخَذَ عَلَيْهِمْ لِنَبِيِّهِ ﷺ إذَا جَاءَهُمْ،
وَذَكَرَ لَهُمْ بَدْءَ خَلْقِهِمْ حَيْنَ خَلَقَهُمْ، وَشَأْنَ أَبِيهِمْ آدَمَ عليه
السلام وَأَمْرَهُ، وَكَيْفَ صَنَعَ بِهِ حَيْنَ خَالَفَ عَنْ طَاعَتِهِ، ثُمَّ
قَالَ: يَا بَنِي إِسْرائِيلَ ٢: ٤٠ لِلْأَحْبَارِ مِنْ يَهُودَ اذْكُرُوا
نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ ٢: ٤٠. أَيْ بَلَائِي عِنْدَكُمْ
وَعِنْدَ آبَائِكُمْ، لَمَّا كَانَ نَجَّاهُمْ بِهِ مِنْ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ
وَأَوْفُوا بِعَهْدِي ٢: ٤٠ الَّذِي أَخَذْتُ فِي أَعْنَاقِكُمْ لِنَبِيِّي
أَحْمَدَ إذَا جَاءَكُمْ أُوفِ بِعَهْدِكُمْ ٢: ٤٠ أُنْجِزْ لَكُمْ مَا
وَعَدْتُكُمْ عَلَى تَصْدِيقِهِ وَاتِّبَاعِهِ بِوَضْعِ مَا كَانَ عَلَيْكُمْ مِنْ
الْآصَارِ وَالْأَغْلَالِ الَّتِي كَانَتْ فِي أَعْنَاقِكُمْ بِذُنُوبِكُمْ
الَّتِي كَانَتْ مِنْ أَحْدَاثِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ ٢: ٤٠ أَيْ أَنْ
أُنْزِلَ بِكُمْ مَا أَنَزَلْتُ بِمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ مِنْ آبَائِكُمْ مِنْ
النِّقْمَاتِ الَّتِي قَدْ عَرَفْتُمْ، مِنْ الْمَسْخِ وَغَيْرِهِ.
وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ
مُصَدِّقًا لِما مَعَكُمْ، وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ ٢: ٤١ وَعِنْدَكُمْ
مِنْ الْعِلْمِ فِيهِ مَا لَيْسَ عِنْدَ غَيْرِكُمْ وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ. وَلا
تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ، وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ
٢: ٤١- ٤٢، أَيْ لَا تَكْتُمُوا مَا عِنْدَكُمْ مِنْ الْمُعْرِفَةِ بِرَسُولِي
وَبِمَا جَاءَ بِهِ، وَأَنْتُمْ تَجِدُونَهُ عِنْدَكُمْ فِيمَا تَعْلَمُونَ مِنْ
الْكُتُبِ الَّتِي بِأَيْدِيكُمْ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ
أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ ٢: ٤٤، أَيْ
أَتَنْهَوْنَ النَّاسَ عَنْ الْكُفْرِ بِمَا عِنْدَكُمْ مِنْ النُّبُوَّةِ
وَالْعَهْدِ مِنْ التَّوْرَاةِ وَتَتْرُكُونَ أَنَفْسَكُمْ، أَيْ وَأَنْتُمْ
تَكْفُرُونَ بِمَا فِيهَا مِنْ عَهْدِي إلَيْكُمْ فِي تَصْدِيقِ رَسُولِي،
وَتَنْقُضُونَ مِيثَاقِي، وَتَجْحَدُونَ مَا تَعْلَمُونَ مِنْ كِتَابِي.
ثُمَّ عَدَّدَ عَلَيْهِمْ
أَحْدَاثَهُمْ، فَذَكَرَ لَهُمْ الْعِجْلَ وَمَا صَنَعُوا فِيهِ، وَتَوْبَتَهُ
عَلَيْهِمْ، وَإِقَالَتَهُ إيَّاهُمْ، ثُمَّ قَوْلَهُمْ: أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً
٤: ١٥٣.
(تَفْسِيرُ
ابْنِ هِشَامٍ لِبَعْضِ الْغَرِيبِ):
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: جَهْرَةً، أَيْ
ظَاهِرًا لَنَا لَا شَيْءَ يَسْتُرهُ عَنَّا. قَالَ أَبُو الْأَخْزَرِ
الْحَمَانِيُّ، وَاسْمُهُ قُتَيْبَةُ:
يَجْهَرُ أَجْوَافَ الْمِيَاهِ
السَّدُمِ [١]
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي أُرْجُوزَةٍ
لَهُ.
يَجْهَرُ: يَقُولُ: يُظْهِرُ
الْمَاءَ، وَيَكْشِفُ عَنْهُ مَا يَسْتُرُهُ مِنْ الرَّمْلِ وَغَيْرِهِ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَأَخْذَ
الصَّاعِقَةِ إيَّاهُمْ عِنْدَ ذَلِكَ لِغِرَّتِهِمْ، ثُمَّ إحْيَاءَهُ إيَّاهُمْ
بَعْدَ مَوْتِهِمْ، وَتَظْلِيلَهُ عَلَيْهِمْ الْغَمَامَ، وَإِنْزَالَهُ
عَلَيْهِمْ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى، وَقَوْلُهُ لَهُمْ:
ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّدًا
وَقُولُوا حِطَّةٌ ٢: ٥٨، أَيْ قُولُوا مَا آمُرُكُمْ بِهِ أَحُطُّ بِهِ
ذُنُوبَكُمْ عَنْكُمْ، وَتَبْدِيلَهُمْ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ اسْتِهْزَاءً
بِأَمْرِهِ، وَإِقَالَتَهُ إيَّاهُمْ ذَلِكَ بَعْدَ هُزْئِهِمْ.
(تَفْسِيرُ
ابْنِ هِشَامٍ لِبَعْضِ الْغَرِيبِ):
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: الْمَنُّ:
شَيْءٌ كَانَ يَسْقُطُ فِي السَّحَرِ عَلَى شَجَرِهِمْ، فَيَجْتَنُونَهُ حُلْوًا
مِثْلَ الْعَسَلِ، فَيَشْرَبُونَهُ وَيَأْكُلُونَهُ. قَالَ أَعْشَى بَنِي قَيْسِ
بْنِ ثَعْلَبَةَ:
لَوْ أُطْعِمُوا الْمَنَّ
وَالسَّلْوَى مَكَانَهُمْ ... مَا أَبْصَرَ النَّاسُ طُعْمًا فِيهُمُ نَجَعَا [٢]
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ
لَهُ. وَالسَّلْوَى: طَيْرٌ، وَاحِدَتُهَا: سَلْوَاةٌ، وَيُقَالُ: إنَّهَا
السُّمَانِيُّ، وَيُقَالُ لِلْعَسَلِ (أَيْضًا): السَّلْوَى. وَقَالَ خَالِدُ بْنُ
زُهَيْرٍ الْهُذَلِيُّ:
وَقَاسَمَهَا باللَّه حَقًّا
لَأَنْتُمْ ... أَلَذُّ مِنْ السَّلْوَى إذَا مَا نَشُورُهَا
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ
لَهُ [٣] . وَحِطَّةٌ: أَيْ حُطَّ عَنَّا ذُنُوبَنَا.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَكَانَ مِنْ
تَبْدِيلِهِمْ ذَلِكَ، كَمَا حَدَّثَنِي صَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ عَنْ صَالح مولى
التّوأمة بِنْتِ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَمَنْ لَا
أَتَّهِمُ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، قَالَ: دَخَلُوا
الْبَابَ الَّذِي أُمِرُوا أَنْ يَدْخُلُوا مِنْهُ سُجَّدًا يَزْحَفُونَ، وَهُمْ
يَقُولُونَ حِنْطٌ فِي شَعِيرٍ. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُرْوَى: حِنْطَةٌ فِي
شَعِيرَةٍ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ:
وَاسْتِسْقَاءَ مُوسَى لِقَوْمِهِ، وَأَمْرَهُ (إيَّاهُ) [٤] أَنْ يَضْرِبَ
بِعَصَاهُ
[١] الْمِيَاه السدم: الْقَدِيمَة الْعَهْد
بالواردة، حَتَّى كَادَت تندفن.
[٢]
نجع: نفع.
[٣]
الْعبارَة من قَوْله «والسلوى» إِلَى قَوْله «فِي قصيدة لَهُ» سَاقِطَة فِي أ.
[٤]
زِيَادَة عَن أ، ط.
الْحَجَرَ، فَانْفَجَرَتْ لَهُمْ
مِنْهُ اثْنَتَا عَشَرَةَ عَيْنًا، لِكُلِّ سِبْطٍ [١] عَيْنٌ يَشْرَبُونَ
مِنْهَا، قَدْ عَلِمَ كُلُّ سِبْطٍ عَيْنَهُ الَّتِي مِنْهَا يَشْرَبُ،
وَقَوْلَهُمْ لِمُوسَى عليه السلام: لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ، فَادْعُ لَنا
رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها
وَفُومِها ٢: ٦١.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: الْفُوَمُ:
الْحِنْطَةُ. قَالَ أُمَيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ الثَّقَفِيُّ:
فَوْقَ شِيزَى مِثْلِ الْجَوَابِي
عَلَيْهَا ... قِطَعٌ كَالْوَذِيلِ فِي نقى قوم [٢]
(تَفْسِيرُ
ابْنِ هِشَامٍ لِبَعْضِ الْغَرِيبِ):
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: الْوَذِيلُ:
قِطَعُ الْفِضَّةِ (وَالْفُوَمُ: الْقَمْحُ) [٣]، وَاحِدَتُهُ:
فُومَةٌ. وَهَذَا الْبَيْتُ فِي
قَصِيدَةٍ لَهُ.
وَعَدَسِها وَبَصَلِها قَالَ
أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ. اهْبِطُوا مِصْرًا
فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ ٢: ٦١.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَلَمْ
يَفْعَلُوا، وَرَفْعَهُ الطُّورَ فَوْقَهُمْ لِيَأْخُذُوا مَا أُوتُوا،
وَالْمَسْخَ الَّذِي كَانَ فِيهِمْ، إذْ جَعَلَهُمْ قِرَدَةً بِأَحْدَاثِهِمْ،
وَالْبَقَرَةَ الَّتِي أَرَاهُمْ اللَّهُ عز وجل بِهَا الْعِبْرَةَ فِي الْقَتِيلِ
الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ، حَتَّى بَيَّنَ اللَّهُ لَهُمْ أَمْرَهُ، بَعْدَ
التَّرَدُّدِ عَلَى مُوسَى عليه السلام فِي صِفَّةِ الْبَقَرَةِ، وَقَسْوَةَ
قُلُوبِهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ حَتَّى كَانَتْ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدَّ قَسْوَةً.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ
الْأَنْهارُ، وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ، وَإِنَّ
مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ٢: ٧٤، أَيْ وَإِنَّ مِنْ
الْحِجَارَةِ لَأَلْيَنُ مِنْ قُلُوبِكُمْ عَمَّا تَدْعُونَ إلَيْهِ مِنْ الْحَقِّ
وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ٢: ٧٤.
ثُمَّ قَالَ لِمُحَمَّدِ عليه الصلاة
والسلام وَلِمَنْ مَعَهُ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ يُؤَيِّسُهُمْ مِنْهُمْ
أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ
كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ ٢: ٧٥
[١] الأسباط فِي بنى إِسْحَاق، كالقبائل فِي
بنى إِسْمَاعِيل.
[٢]
الشيزى: جفان تصنع من خشب يُقَال لَهُ: الشيز وَهُوَ خشب أسود والجوابى: جمع جابية.
وَهِي الْحِيَاض يجبى فِيهَا المَاء،
أَي يجمع.
[٣]
زِيَادَة عَن ط.
يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا
عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ٢: ٧٥، وَلَيْسَ قَوْلُهُ يَسْمَعُونَ التَّوْرَاةَ،
أَنَّ كُلَّهُمْ قَدْ سَمِعَهَا، وَلَكِنَّهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ، أَيْ خَاصَّةٌ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ [١]، فِيمَا
بَلَغَنِي عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ: قَالُوا لِمُوسَى: يَا مُوسَى، قَدْ
حِيلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ رُؤْيَةِ اللَّهِ، فَأَسْمِعْنَا كَلَامَهُ حَيْنَ
يُكَلِّمُكَ، فَطَلَبَ ذَلِكَ مُوسَى عليه السلام مِنْ رَبِّهِ، فَقَالَ لَهُ:
نَعَمْ، مُرْهُمْ فَلْيَطَّهَّرُوا، أَوْ لِيُطَهِّرُوا ثِيَابَهُمْ،
وَلْيَصُومُوا، فَفَعَلُوا. ثُمَّ خَرَجَ بِهِمْ حَتَّى أَتَى بِهِمْ الطُّورَ،
فَلَمَّا غَشِيَهُمْ الْغَمَامُ أَمَرَهُمْ مُوسَى فَوَقَعُوا سُجَّدًا،
وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ، فَسَمِعُوا كَلَامَهُ تبارك وتعالى، يَأْمُرُهُمْ
وَيَنْهَاهُمْ، حَتَّى عَقَلُوا عَنْهُ مَا سَمِعُوا، ثُمَّ انْصَرَفَ بِهِمْ إلَى
بَنِي إسْرَائِيلَ، فَلَمَّا جَاءَهُمْ حَرَّفَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ مَا أَمَرَهُمْ
بِهِ، وَقَالُوا، حَيْنَ قَالَ مُوسَى لِبَنِي إسْرَائِيلَ: إنَّ اللَّهَ قَدْ
أَمَرَكُمْ بِكَذَا وَكَذَا، قَالَ ذَلِكَ الْفَرِيقُ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ عز
وجل: إنَّمَا
قَالَ كَذَا وَكَذَا، خِلَافًا لِمَا قَالَ اللَّهُ لَهُمْ، فَهُمْ الَّذِينَ
عَنَى اللَّهُ عز وجل لِرَسُولِهِ ﷺ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَإِذا لَقُوا
الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا ٢: ١٤، أَيْ بِصَاحِبِكُمْ [٢] رَسُولِ اللَّهِ،
وَلَكِنَّهُ إلَيْكُمْ خَاصَّةً. وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا ٢:
٧٦: لَا تُحَدِّثُوا الْعَرَبَ بِهَذَا، فَإِنَّكُمْ قَدْ كُنْتُمْ
تَسْتَفْتِحُونَ بِهِ عَلَيْهِمْ، فَكَانَ فِيهِمْ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل فِيهِمْ:
وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا، وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى
بَعْضٍ قالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ
بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ ٢: ٧٦، أَيْ تُقِرُّونَ بِأَنَّهُ
نَبِيٌّ، وَقَدْ عَرَفْتُمْ أَنَّهُ قَدْ أُخِذَ لَهُ الْمِيثَاقُ عَلَيْكُمْ
بِاتِّبَاعِهِ، وَهُوَ يُخْبِرُكُمْ أَنَّهُ النَّبِيُّ الَّذِي كُنَّا نَنْتَظِرُ
وَنَجِدُ فِي كِتَابِنَا، اجْحَدُوهُ وَلَا تُقِرُّوا لَهُمْ بِهِ. يَقُولُ
اللَّهُ عز وجل: أَوَلا
يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ، وَمِنْهُمْ
أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَّ ٢: ٧٧- ٧٨.
(تَفْسِيرُ
ابْنِ هِشَامٍ لِبَعْضِ الْغَرِيبِ):
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ، عَنْ أَبِي
عُبَيْدَةَ: إلَّا أَمَانِيَّ: إلَّا قِرَاءَةً، لِأَنَّ الْأُمِّيَّ: الَّذِي
[١] هَذِه الْعبارَة سَاقِطَة فِي أ.
[٢]
فِي م، ر: «أَي أَن صَاحبكُم ... إِلَخ» .
يَقْرَأُ وَلَا يَكْتُبُ. يَقُولُ:
لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إلَّا (أَنَّهُمْ) [١] يَقْرَءُونَهُ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ [٢]: عَنْ أَبِي
عُبَيْدَةَ وَيُونُسَ أَنَّهُمَا تَأَوَّلَا ذَلِكَ عَنْ الْعَرَبِ فِي قَوْلِ
اللَّهِ عز وجل، حَدَّثَنِي أَبُو عُبَيْدَةَ بِذَلِكَ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَحَدَّثَنِي
يُونُسُ بْنُ حَبِيبٍ النَّحْوِيُّ وَأَبُو عُبَيْدَةَ: أَنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ:
تَمَنَّى، فِي مَعْنَى قَرَأَ. وَفِي كِتَابِ اللَّهِ تبارك وتعالى:
وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ
رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ
٢٢: ٥٢. قَالَ: وَأَنْشَدَنِي أَبُو عُبَيْدَةَ النَّحْوِيُّ:
تَمَنَّى كِتَابَ اللَّهِ أَوَّلَ
لَيْلِهِ ... وَآخِرَهُ وَافَى حِمَامُ الْمَقَادِرِ
وَأَنْشَدَنِي أَيْضًا:
تَمَنَّى كِتَابَ اللَّهِ فِي
اللَّيْلِ خَالِيًا ... تَمَنِّيَ دَاوُدَ الزَّبُورَ عَلَى رِسْلِ
وَوَاحِدَةُ الْأَمَانِيِّ:
أُمْنِيَّةٌ. وَالْأَمَانِيُّ (أَيْضًا): أَنْ يَتَمَنَّى الرَّجُلُ الْمَالَ أَوْ
غَيْرَهُ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَإِنْ هُمْ
إِلَّا يَظُنُّونَ ٢: ٧٨: أَيْ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ وَلَا يَدْرُونَ مَا
فِيهِ، وَهُمْ يَجْحَدُونَ نُبُوَّتَكَ بِالظَّنِّ. وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا
النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً، قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ
عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا
تَعْلَمُونَ ٢: ٨٠.
(دَعْوَى
الْيَهُودَ قِلَّةَ الْعَذَابِ فِي الْآخِرَةِ، وَرَدُّ اللَّهِ عَلَيْهِمْ):
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي
مَوْلًى لِزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ عِكْرِمَةَ، أَوْ عَنْ سَعِيدِ ابْن جُبَيْرٍ،
عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ الْمَدِينَةَ، وَالْيَهُودُ
تَقُولُ: إنَّمَا مُدَّةُ الدُّنْيَا سَبْعَةُ آلَافِ سَنَةٍ، وَإِنَّمَا
يُعَذِّبُ اللَّهُ [٣] النَّاسَ فِي النَّارِ بِكُلِّ أَلْفِ سَنَةٍ مِنْ أَيَّامِ
الدُّنْيَا يَوْمًا وَاحِدًا فِي النَّارِ مِنْ أَيَّامِ الْآخِرَةِ، وَإِنَّمَا
هِيَ سَبْعَةُ أَيَّامٍ ثُمَّ يَنْقَطِعُ الْعَذَابُ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي
ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمْ: وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا
مَعْدُودَةً. قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ
٢: ٨٠
[١] زِيَادَة عَن أ، ط.
[٢]
كَذَا فِي أ. وَقد وَردت هَذِه الْعبارَة مضطربة فِي سَائِر الْأُصُول.
[٣]
فِي ط: «وَإِنَّمَا يعذب النَّاس ... إِلَخ» .
عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى
اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ. بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ
خَطِيئَتُهُ ٢: ٨٠- ٨١. أَيْ مَنْ عَمِلَ بِمِثْلِ أَعْمَالِكُمْ، وَكَفَرَ
بِمِثْلِ مَا كَفَرْتُمْ بِهِ، يُحِيطُ كُفْرُهُ بِمَا لَهُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ حَسَنَةٍ،
فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ ٢: ٨١ أَيْ خُلْدٌ أَبَدًا.
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ
فِيها خالِدُونَ ٢: ٨٢: أَيْ مَنْ آمَنَ بِمَا كَفَرْتُمْ بِهِ، وَعَمِلَ بِمَا
تَرَكْتُمْ مِنْ دِينِهِ، فَلَهُمْ الْجَنَّةُ خَالِدِينَ فِيهَا، يُخْبِرُهُمْ
أَنَّ الثَّوَابَ بِالْخَيْرِ وَالشَّرِّ مُقِيمٌ عَلَى أَهْلِهِ أَبَدًا، لَا
انْقِطَاعَ لَهُ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: ثُمَّ قَالَ
(اللَّهُ عز وجل [١] يُؤَنِّبُهُمْ: وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ ٢:
٨٣، أَيْ مِيثَاقَكُمْ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ، وَبِالْوالِدَيْنِ
إِحْسانًا، وَذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ، وَقُولُوا لِلنَّاسِ
حُسْنًا، وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ، ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا
قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ ٢: ٨٣، أَيْ تَرَكْتُمْ ذَلِكَ كُلَّهُ
لَيْسَ بِالتَّنَقُّصِ. وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ
٢: ٨٤
(تَفْسِيرُ
ابْنِ هِشَامٍ لِبَعْضِ الْغَرِيبِ):
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: تَسْفِكُونَ:
تَصُبُّونَ. تَقُولُ الْعَرَبُ: سَفَكَ دَمَهُ، أَيْ صَبَّهُ، وَسَفَكَ الزِّقَّ،
أَيْ هَرَاقَهُ. قَالَ الشَّاعِرُ:
وَكُنَّا إذَا مَا الضَّيْفُ حَلَّ
بِأَرْضِنَا ... سَفَكْنَا دِمَاءَ الْبُدْنِ فِي تُرْبَةِ الْحَالِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: يَعْنِي
«بِالْحَالِ»: الطِّينِ الَّذِي يُخَالِطُهُ الرَّمْلُ، وَهُوَ الَّذِي تَقُولُ
لَهُ الْعَرَبُ: السَّهْلَةُ. وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ [٢]: أَنَّ جِبْرِيلَ
لَمَّا قَالَ فِرْعَوْنُ: آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ
بَنُوا إِسْرائِيلَ ١٠: ٩٠ أَخَذَ مِنْ حَالِ الْبَحْرِ [٣] (وَحَمَأَتِهِ) [٤]،
فَضَرَبَ بِهِ وَجْهَ فِرْعَوْنَ. (وَالْحَالُ: مِثْلُ الْحَمْأَةِ) [٥]
.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ [٦]: وَلا
تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ
تَشْهَدُونَ ٢: ٨٤.
[١] زِيَادَة عَن ط.
[٢]
فِي أ، ط: «وَفِي الحَدِيث» .
[٣]
كَذَا فِي أ، ط. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «الأَرْض» .
[٤]
زِيَادَة عَن أ، ط.
[٥]
هَذِه الْعبارَة سَاقِطَة فِي أ.
[٦]
زِيَادَة عَن ط.
عَلَى أَنَّ هَذَا حَقٌّ مِنْ
مِيثَاقِي عَلَيْكُمْ، ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ،
وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ، تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ
بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ ٢: ٨٥، أَيْ أَهْلَ الشِّرْكِ، حَتَّى يَسْفِكُوا
دِمَاءَهُمْ مَعَهُمْ، وَيُخْرِجُوهُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ مَعَهُمْ. وَإِنْ
يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ ٢: ٨٥ وَقَدْ عَرَفْتُمْ أَنَّ ذَلِكَ عَلَيْكُمْ
فِي دِينِكُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ ٢: ٨٥: فِي كِتَابِكُمْ إِخْراجُهُمْ،
أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ ٢: ٨٥، (أَيْ) [١]
أَتُفَادُونَهُمْ مُؤْمِنِينَ بِذَلِكَ، وَتُخْرِجُونَهُمْ كُفَّارًا بِذَلِكَ.
فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا،
وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ، وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ
عَمَّا تَعْمَلُونَ. أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا
بِالْآخِرَةِ، فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ، وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ ٢: ٨٥-
٨٦. فَأَنَّبَهُمْ اللَّهُ عز وجل بِذَلِكَ مِنْ فِعْلهمْ، وَقَدْ حَرَّمَ
عَلَيْهِمْ فِي التَّوْرَاةِ سَفْكَ دِمَائِهِمْ، وَافْتَرَضَ عَلَيْهِمْ فِيهَا
فِدَاءَ أَسْرَاهُمْ.
فَكَانُوا فَرِيقَيْنِ، مِنْهُمْ
بَنُو قَيْنُقَاعَ وَلَفُّهُمْ [٢]، حُلَفَاءُ الْخَزْرَجِ، وَالنَّضِيرُ
وَقُرَيْظَةَ وَلَفُّهُمْ، حُلَفَاءُ الْأَوْسِ. فَكَانُوا إذَا كَانَتْ بَيْنَ
الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ حَرْبٌ.
خَرَجَتْ بَنُو قَيْنُقَاعَ مَعَ
الْخَزْرَجِ وَخَرَجَتْ النَّضِيرُ وَقُرَيْظَةُ مَعَ الْأَوْسِ يُظَاهِرُ كُلُّ
وَاحِدٍ مِنْ الْفَرِيقَيْنِ حُلَفَاءَهُ عَلَى إخْوَانِهِ، حَتَّى يَتَسَافَكُوا
دِمَاءَهُمْ بَيْنَهُمْ، وَبِأَيْدِيهِمْ التَّوْرَاةُ يَعْرِفُونَ فِيهَا مَا
عَلَيْهِمْ وَمَا لَهُمْ، وَالْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ أَهْلُ شِرْكٍ يَعْبُدُونَ
الْأَوْثَانَ:
لَا يَعْرِفُونَ جَنَّةً وَلَا
نَارًا، وَلَا بَعْثًا وَلَا قِيَامَةً، وَلَا كِتَابًا، وَلَا حَلَالًا وَلَا
حَرَامًا، فَإِذَا وَضَعَتْ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا [٣] افْتَدَوْا أُسَارَاهُمْ
[٤] تَصْدِيقًا لِمَا فِي التَّوْرَاةِ، وَأَخَذَ بِهِ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ،
يَفْتَدِي بَنُو قَيْنُقَاعَ مَنْ [٥] كَانَ مِنْ أَسْرَاهُمْ فِي أَيَدِي
الْأَوْسِ وَتَفْتَدِي النَّضِيرُ وَقُرَيْظَةُ مَا فِي أَيَدِي الْخَزْرَجِ
مِنْهُمْ. وَيُطِلُّونَ [٦] مَا أَصَابُوا مِنْ
[١] زِيَادَة عَن ط.
[٢]
لفهم: أَي من عد فيهم.
[٣]
هَذِه الْكَلِمَة سَاقِطَة فِي أ، ط.
[٤]
فِي م: «أسارهم» وَهُوَ تَحْرِيف.
[٥]
كَذَا فِي ط. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «مَا» .
[٦]
يطلون: يبطلون.
الدِّمَاءِ، وَقَتْلَى مَنْ قُتِلُوا
مِنْهُمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ، مُظَاهَرَةً لِأَهْلِ الشِّرْكِ عَلَيْهِمْ. يَقُولُ
اللَّهُ تَعَالَى لَهُمْ حَيْنَ أَنَّبَهُمْ [١] بِذَلِكَ: أَفَتُؤْمِنُونَ
بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ ٢: ٨٥، أَيْ تُفَادِيهِ بِحُكْمِ
التَّوْرَاةِ وَتَقْتُلُهُ، وَفِي حُكْمِ التَّوْرَاةِ أَنْ لَا تَفْعَلَ،
تَقْتُلُهُ وَتُخْرِجُهُ مِنْ دَارِهِ وَتُظَاهِرُ عَلَيْهِ مَنْ يُشْرِكُ
باللَّه، وَيَعْبُدُ الْأَوْثَانَ مِنْ دُونِهِ، ابْتِغَاءَ عَرَضِ الدُّنْيَا.
فَفِي ذَلِكَ مِنْ فِعْلِهِمْ مَعَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ- فِيمَا بَلَغَنِي-
نَزَلَتْ هَذِهِ الْقِصَّةُ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ
آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ، وَآتَيْنا
عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ ٢: ٨٧، أَيْ الْآيَاتُ الَّتِي وُضِعَتْ [٢]
عَلَى يَدَيْهِ، مِنْ إحْيَاءِ الْمَوْتَى، وَخَلْقِهِ مِنْ الطِّينِ كَهَيْئَةِ
الطَّيْرِ، ثُمَّ يَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ، وَإِبْرَاءِ
الْأَسْقَامِ، وَالْخَبَرِ بِكَثِيرٍ مِنْ الْغُيُوبِ مِمَّا يَدَّخِرُونَ فِي
بُيُوتِهِمْ، وَمَا رَدَّ عَلَيْهِمْ مِنْ [٣] التَّوْرَاةِ مَعَ الْإِنْجِيلِ،
الَّذِي أَحْدَثَ اللَّهُ إلَيْهِ. ثُمَّ ذَكَرَ كُفْرَهُمْ بِذَلِكَ كُلِّهِ،
فَقَالَ: أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لَا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ
اسْتَكْبَرْتُمْ، فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ ٢: ٨٧، ثُمَّ
قَالَ تَعَالَى: وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ ٢: ٨٨: فِي أَكِنَّةٍ. يَقُولُ اللَّهُ
عز وجل: بَلْ
لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ. وَلَمَّا جاءَهُمْ
كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ
يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا، فَلَمَّا جاءَهُمْ مَا عَرَفُوا
كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ ٢: ٨٨- ٨٩.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: حَدَّثَنِي
عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ عَنْ أَشْيَاخٍ مِنْ قَوْمِهِ، قَالَ:
قَالُوا: فِينَا وَاَللَّهِ
وَفِيهِمْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْقِصَّةُ، كُنَّا قَدْ عَلَوْنَاهُمْ ظَهْرًا فِي
الْجَاهِلِيَّةِ وَنَحْنُ أَهْلُ شِرْكٍ وَهُمْ أَهْلُ كِتَابٍ فَكَانُوا
يَقُولُونَ لَنَا: إنَّ نَبِيًّا يُبْعَثُ الْآنَ نَتَّبِعُهُ قَدْ أَظَلَّ
زَمَانَهُ، نَقْتُلُكُمْ مَعَهُ قَتْلَ عَادٍ وَإِرَمَ. فَلَمَّا بَعَثَ اللَّهُ
رَسُولَهُ ﷺ مِنْ قُرَيْشٍ فَاتَّبَعْنَاهُ كَفَرُوا بِهِ. يَقُولُ اللَّهُ:
[١] كَذَا فِي أ، ط. وَفِي سَائِر الْأُصُول:
«أنبأهم»، وَلَا يَسْتَقِيم بهَا الْكَلَام.
[٢]
كَذَا فِي ط. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «وضع» .
[٣]
كَذَا فِي أ، ط. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «مَعَ التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل»
.
فَلَمَّا جاءَهُمْ مَا عَرَفُوا
كَفَرُوا بِهِ، فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ. بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ
أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ
اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ ٢: ٨٩- ٩٠، أَيْ أَنْ
جَعَلَهُ فِي غَيرهم فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ
٢: ٩٠.
(تَفْسِيرُ
ابْنِ هِشَامٍ لِبَعْضِ الْغَرِيبِ):
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: فَبَاءُوا
بِغَضَبٍ: أَيْ اعْتَرَفُوا بِهِ وَاحْتَمَلُوهُ. قَالَ أَعْشَى بَنِي قَيْسِ بْنِ
ثَعْلَبَةَ:
أُصَالِحُكُمْ حَتَّى تَبُوءُوا
بِمِثْلِهَا ... كَصَرْخَةِ حُبْلَى يَسَّرَتْهَا قَبِيلُهَا [١]
(قَالَ
ابْنُ هِشَامٍ: يَسَّرَتْهَا: أَجَلَسَتْهَا لِلْوِلَادَةِ) [٢] . وَهَذَا
الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَالْغَضَبُ
عَلَى الْغَضَبِ لِغَضَبِهِ عَلَيْهِمْ فِيمَا كَانُوا ضَيَّعُوا مِنْ
التَّوْرَاةِ، وَهِيَ مَعَهُمْ، وَغَضَبٌ بِكُفْرِهِمْ بِهَذَا النَّبِيِّ ﷺ
الَّذِي أَحْدَثَ اللَّهُ إلَيْهِمْ.
ثُمَّ أَنَّبَهُمْ بِرَفْعِ الطُّورِ
عَلَيْهِمْ، وَاِتِّخَاذِهِمْ الْعِجْلَ إلَهًا دُونَ رَبِّهِمْ، يَقُولُ اللَّهُ
تَعَالَى لِمُحَمَّدٍ ﷺ: قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ
اللَّهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ، فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ
صادِقِينَ ٢: ٩٤، أَيْ اُدْعُوا بِالْمَوْتِ عَلَى أَيِّ الْفَرِيقَيْنِ أَكْذَبُ
عِنْدَ اللَّهِ، فَأَبَوْا ذَلِكَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ. يَقُولُ اللَّهُ جَلَّ
ثَنَاؤُهُ لِنَبِيِّهِ عليه الصلاة والسلام: وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِما
قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ٢: ٩٥، أَيْ بِعِلْمِهِمْ بِمَا عِنْدَهُمْ مِنْ الْعِلْمِ
بِكَ، وَالْكُفْرِ بِذَلِكَ [٣]، فَيُقَالُ: لَوْ تَمَنَّوْهُ يَوْمَ قَالَ ذَلِكَ
لَهُمْ مَا بَقِيَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ يَهُودِيٌّ إلَّا مَاتَ. ثُمَّ ذَكَرَ
رَغْبَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَطُولَ الْعُمْرِ، فَقَالَ تَعَالَى:
وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ
عَلى حَياةٍ ٢: ٩٦ الْيَهُودَ وَمن الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ
يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ
٢: ٩٦،
[١] الْقَبِيل: الْقَابِلَة.
[٢]
زِيَادَة عَن ط.
[٣]
كَذَا فِي أ. وَفِي ط: «بك» . وَفِي سَائِر الْأُصُول: «فَذَلِك»
.
أَيْ مَا هُوَ بِمُنْجِيهِ مِنْ
الْعَذَابِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمُشْرِكَ لَا يَرْجُو بَعْثًا بَعْدَ الْمَوْتِ،
فَهُوَ يُحِبُّ طُولَ الْحَيَاةِ، وَأَنَّ الْيَهُودِيَّ قَدْ عَرَفَ مَا لَهُ فِي
الْآخِرَةِ مِنْ الْخِزْيِ بِمَا ضَيَّعَ مِمَّا عِنْدَهُ مِنْ الْعِلْمِ. ثُمَّ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ
عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ ٢: ٩٧.
(سُؤَالُ
الْيَهُودِ الرَّسُولَ، وَإِجَابَتُهُ لَهُمْ عليه الصلاة والسلام:
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: حَدَّثَنِي
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ (عَبْدِ) [١] الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي حُسَيْنٍ الْمَكِّيُّ،
عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ الْأَشْعَرِيِّ: أَنَّ نَفَرًا مِنْ أَحْبَارِ يَهُودَ
جَاءُوا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ، أَخْبِرْنَا عَنْ أَرْبَعٍ
نَسْأَلُكَ عَنْهُنَّ، فَإِنْ فَعَلْتَ ذَلِكَ اتَّبَعْنَاكَ وَصَدَّقْنَاكَ،
وَآمَنَّا بِكَ. قَالَ: فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:
عَلَيْكُمْ بِذَلِكَ عَهْدُ اللَّهِ
وَمِيثَاقُهُ لَئِنْ أَنَا أَخْبَرْتُكُمْ بِذَلِكَ لَتُصَدِّقُنَّنِي، قَالُوا:
نَعَمْ، قَالَ: فَاسْأَلُوا عَمَّا بَدَا لَكُمْ، قَالُوا: فَأَخْبِرْنَا كَيْفَ
يُشْبِهُ الْوَلَدُ أُمَّهُ، وَإِنَّمَا النُّطْفَةُ مِنْ الرَّجُلِ؟ قَالَ:
فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: أُنْشِدُكُمْ باللَّه وَبِأَيَّامِهِ عِنْدَ
بَنِي إسْرَائِيلَ، هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ نُطْفَةَ الرَّجُلِ بَيْضَاءُ
غَلِيظَةٌ، وَنُطْفَةَ الْمَرْأَةِ صَفْرَاءُ رَقِيقَةٌ، فَأَيَّتُهُمَا عَلَتْ
صَاحِبَتَهَا كَانَ لَهَا الشَّبَهُ؟ قَالُوا: اللَّهمّ نَعَمْ، قَالُوا:
فَأَخْبِرْنَا كَيْفَ نَوْمُكَ؟
فَقَالَ: أَنْشُدُكُمْ باللَّه وَبِأَيَّامِهِ عِنْدَ بَنِي إسْرَائِيلَ، هَلْ
تَعْلَمُونَ أَنَّ نَوْمَ الَّذِي تَزْعُمُونَ أَنِّي لَسْتُ بِهِ تَنَامُ
عَيْنُهُ وَقَلْبُهُ يَقْظَانُ؟ فَقَالُوا: اللَّهمّ نَعَمْ، قَالَ: فَكَذَلِكَ
نَوْمِي، تَنَامُ عَيْنِيَّ وَقَلْبِي يَقْظَانُ، قَالُوا: فَأَخْبِرْنَا عَمَّا
حَرَّمَ إسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ؟ قَالَ: أَنْشُدُكُمْ باللَّه وَبِأَيَّامِهِ
عِنْدَ بَنِي إسْرَائِيلَ، هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّهُ كَانَ أَحَبُّ الطَّعَامِ
وَالشَّرَابِ إلَيْهِ أَلْبَانَ الْإِبِلِ وَلُحُومَهَا، وَأَنَّهُ اشْتَكَى
شَكْوَى، فَعَافَاهُ اللَّهُ مِنْهَا، فَحَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ أَحَبَّ
الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ إلَيْهِ شُكْرًا للَّه، فَحَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ لُحُومَ
الْإِبِلِ وَأَلْبَانَهَا؟ قَالُوا: اللَّهمّ نَعَمْ، قَالُوا: فَأَخْبِرْنَا عَنْ
الرُّوحِ؟ قَالَ: أَنْشُدُكُمْ باللَّه وَبِأَيَّامِهِ عِنْدَ بَنِي إسْرَائِيلَ،
هَلْ تَعْلَمُونَهُ جِبْرِيلُ، وَهُوَ الَّذِي يَأْتِينِي؟ قَالُوا: اللَّهمّ
نَعَمْ، وَلَكِنَّهُ يَا مُحَمَّدُ لَنَا عَدُوٌّ، وَهُوَ مَلَكٌ، إنَّمَا يَأْتِي
بِالشِّدَّةِ وَبِسَفْكِ الدِّمَاءِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَاتَّبَعْنَاكَ، قَالَ:
فَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل فِيهِمْ: قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا ٢: ٩٧
[١] زِيَادَة عَن ط.
لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ
عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرى
لِلْمُؤْمِنِينَ ٢: ٩٧ ... إلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْدًا
نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ، بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ. وَلَمَّا جاءَهُمْ
رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ
الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللَّهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا
يَعْلَمُونَ. وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ ٢:
١٠٠- ١٠٢، أَيْ السِّحْرُ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا
يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ ٢: ١٠٢.
(إنْكَارُ
الْيَهُودِ نُبُوَّةَ دَاوُدَ عليه السلام، وَرَدُّ اللَّهِ عَلَيْهِمْ):
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَذَلِكَ
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فِيمَا بَلَغَنِي- لَمَّا ذَكَرَ سُلَيْمَانَ بْنَ
دَاوُدَ فِي الْمُرْسَلِينَ، قَالَ بَعْضُ أَحْبَارِهِمْ: أَلَا تَعْجَبُونَ مِنْ
مُحَمَّدٍ، يَزْعُمُ أَنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ دَاوُدَ كَانَ نَبِيًّا، وَاَللَّهِ
مَا كَانَ إلَّا سَاحِرًا. فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ مِنْ
قَوْلِهِمْ: وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا ٢: ١٠٢، أَيْ
بِاتِّبَاعِهِمْ السِّحْرَ وَعَمَلِهِمْ بِهِ. وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ
بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ ٢: ١٠٢.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي
بَعْضُ مَنْ لَا أَتَّهِمُ عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ كَانَ
يَقُولُ: الَّذِي حَرَّمَ إسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ زَائِدَتَا الْكَبِدِ
وَالْكُلْيَتَانِ وَالشَّحْمَ، إلَّا مَا كَانَ عَلَى الظَّهْرِ، فَإِنَّ ذَلِكَ
كَانَ يُقَرَّبُ لِلْقُرْبَانِ، فَتَأْكُلَهُ النَّارُ.
(كِتَابُهُ
ﷺ إلَى يَهُودِ خَيْبَرَ):
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَكَتَبَ
رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إلَى يَهُودِ خَيْبَرَ، فِيمَا حَدَّثَنِي مَوْلًى لِآلِ زَيْدِ
بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ أَوْ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ ابْنِ
عَبَّاسٍ:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ
الرَّحِيمِ، مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، صَاحِبِ مُوسَى وَأَخِيهِ،
وَالْمُصَدِّقُ لِمَا جَاءَ بِهِ مُوسَى: أَلَا إنَّ اللَّهَ قَدْ قَالَ لَكُمْ
يَا مَعْشَرَ أَهْلِ التَّوْرَاةِ، وَإِنَّكُمْ لَتَجِدُونَ ذَلِكَ فِي كِتَابِكُمْ:
مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ
رُحَماءُ بَيْنَهُمْ، تَراهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ
اللَّهِ وَرِضْوانًا، سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ، ذلِكَ
مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ
وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ
فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ
الْكُفَّارَ، وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ
مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ٤٨: ٢٩.
وَإِنِّي أَنْشُدُكُمْ باللَّه،
وَأَنْشُدُكُمْ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْكُمْ، وَأَنْشُدُكُمْ بِاَلَّذِي أَطْعَمَ
مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ مِنْ أَسْبَاطِكُمْ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى، وَأَنْشُدُكُمْ
بِاَلَّذِي أَيْبَسَ الْبَحْرَ لِآبَائِكُمْ حَتَّى أَنَجَاهُمْ مِنْ فِرْعَوْنَ
وَعَمَلِهِ، إلَّا أَخْبَرْتُمُونِي: هَلْ تَجِدُونَ فِيمَا أَنْزَلَ اللَّهُ
عَلَيْكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِمُحَمِّدٍ؟ فَإِنْ كُنْتُمْ لَا تَجِدُونَ ذَلِكَ
فِي كِتَابِكُمْ فَلَا كُرْهَ عَلَيْكُمْ. قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الْغَيِّ
٢: ٢٥٦- فَأَدْعُوكُمْ إلَى اللَّهِ وَإِلَى نَبِيِّهِ.
(تَفْسِيرُ
ابْنِ هِشَامٍ لِبَعْضِ الْغَرِيبِ):
قَالَ ابْن هِشَام: شطوه: فِرَاخُهُ،
وَوَاحِدَتُهُ: شِطْأَةٌ. تَقُولُ الْعَرَبُ: قَدْ أَشْطَأَ الزَّرْعُ، إذَا
أَخْرَجَ فِرَاخَهُ. وَآزَرَهُ: عَاوَنَهُ، فَصَارَ الَّذِي قَبْلَهُ مِثْلَ
الْأُمَّهَاتِ.
قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ بْنُ حُجْرٍ
الْكِنْدِيُّ:
بمَحْنِيَةٍ قَدْ آزَرَ الضَّالَّ
نَبْتُهَا ... مَجَرَّ جُيُوشٍ غَانِمِينَ وَخُيَّبِ [١]
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ
لَهُ. وَقَالَ حُمَيْدُ بْنُ مَالِكٍ الْأَرْقَطُ، أَحَدُ بَنِي رَبِيعَةَ بْنِ
مَالِكِ ابْن زَيْدِ مَنَاةَ:
زَرْعًا وَقَضْبًا مُؤْزَرَ
النَّبَاتِ [٢]
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي أُرْجُوزَةٍ
لَهُ، وَسُوقُهُ (غَيْرُ مَهْمُوزٍ): جَمْعُ سَاقٍ، لِسَاقِ [٣] الشَّجَرَةِ.
(مَا
نَزَلَ فِي أَبِي يَاسِرٍ وَأَخِيهِ):
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَكَانَ
مِمَّنْ نَزَلَ فِيهِ الْقُرْآنُ، بِخَاصَّةٍ مِنْ الْأَحْبَارِ وَكُفَّارِ
يَهُودَ، الَّذِي كَانُوا يَسْأَلُونَهُ وَيَتَعَنَّتُونَهُ لِيَلْبِسُوا الْحَقَّ
بِالْبَاطِلِ- فِيمَا ذُكِرَ لِي عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَجَابِرِ
بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رِئَابٍ- أَنَّ أَبَا يَاسِرِ بْنِ أَخْطَبَ مَرَّ
بِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَهُوَ يَتْلُو فَاتِحَةَ الْبَقَرَةِ: الم ذلِكَ الْكِتابُ
لَا رَيْبَ فِيهِ ٢: ١- ٢.
[١] المحنية: مَا انحنى من الْوَادي وانعطف.
والضال: شجر يشبه السدر تعْمل مِنْهُ القسي.
[٢]
القضب: الفصفصة الرّطبَة.
[٣]
فِي أ: «كساق» .
٣٥-
سيرة ابْن هِشَام- ١
فَأَتَى أَخَاهُ حُيَيَّ بْنَ
أَخْطَبَ فِي رِجَالٍ مِنْ يَهُودَ، فَقَالَ: تَعْلَمُوا وَاَللَّهِ، لَقَدْ
سَمِعْتُ مُحَمَّدًا يَتْلُو فِيمَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ: الم ذلِكَ الْكِتابُ ٢: ١-
٢، فَقَالُوا: أَنْتَ سَمِعْتَهُ؟ فَقَالَ: نعم فمثنى حُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ فِي
أُولَئِكَ النَّفَرِ مِنْ يَهُودَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَقَالُوا لَهُ: يَا
مُحَمَّدُ، أَلَمْ يُذْكَرْ لَنَا أَنَّكَ تَتْلُو فِيمَا أُنْزِلَ إلَيْكَ: الم
ذلِكَ الْكِتابُ ٢: ١- ٢؟
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: بَلَى،
قَالُوا: أَجَاءَكَ بِهَا جِبْرِيلُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ؟
فَقَالَ: نَعَمْ، قَالُوا: لَقَدْ
بَعَثَ اللَّهُ قَبْلَكَ أَنْبِيَاءَ، مَا نَعْلَمُهُ بَيَّنَ لِنَبِيٍّ مِنْهُمْ
مَا مُدَّةُ مُلْكِهِ، وَمَا أَكْلُ [١] أُمَّتِهِ غَيْرَكَ، فَقَالَ حُيَيُّ بْنُ
أَخْطَبَ، وَأَقْبَلَ عَلَى مَنْ مَعَهُ، فَقَالَ لَهُمْ: الْأَلِفُ وَاحِدَةٌ،
وَاللَّامُ ثَلَاثُونَ، وَالْمِيمُ أَرْبَعُونَ، فَهَذِهِ إحْدَى وَسَبْعُونَ
سَنَةً، أَفَتَدْخُلُونَ فِي دِينٍ إنَّمَا مُدَّةُ مُلْكِهِ وَأَكْلُ أُمَّتِهِ
إحْدَى وَسَبْعُونَ سَنَةً؟ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَقَالَ: يَا
مُحَمَّدُ، هَلْ مَعَ هَذَا غَيْرُهُ؟ قَالَ:
نَعَمْ، قَالَ: مَاذَا؟ قَالَ: المص
٧: ١. قَالَ: هَذِهِ وَاَللَّهِ أَثْقَلُ وَأَطْوَلُ، الْأَلِفُ وَاحِدَةٌ
وَاللَّامُ ثَلَاثُونَ، وَالْمِيمُ أَرْبَعُونَ، وَالصَّادُ تِسْعُونَ [٢]،
فَهَذِهِ إِحْدَى وستّون [٣] وَمِائَة سَنَةٍ، هَلْ مَعَ هَذَا يَا مُحَمَّدُ
غَيْرُهُ؟ قَالَ: نَعَمْ الر ١٠: ١. قَالَ: هَذِهِ وَاَللَّهِ أَثْقَلُ
وَأَطْوَلُ، الْأَلِفُ وَاحِدَةٌ، وَاللَّامُ ثَلَاثُونَ، وَالرَّاءُ مِائَتَانِ،
فَهَذِهِ إِحْدَى وَثَلَاثُونَ ومائتان، هَلْ مَعَ هَذَا غَيْرُهُ يَا مُحَمَّدُ؟
قَالَ: نَعَمْ المر ١٣: ١. قَالَ: هَذِهِ وَاَللَّهِ أَثْقَلُ وَأَطْوَلُ،
الْأَلِفُ وَاحِدَةٌ، وَاللَّامُ ثَلَاثُونَ، وَالْمِيمُ أَرْبَعُونَ، وَالرَّاءُ
مِائَتَانِ، فَهَذِهِ إِحْدَى وَسَبْعُونَ وَمِائَتَا سَنَةٍ، ثُمَّ قَالَ: لَقَدْ
لُبِّسَ عَلَيْنَا أَمْرُكَ يَا مُحَمَّدُ، حَتَّى مَا نَدْرِي أَقَلِيلًا
أُعْطِيتَ أَمْ كَثِيرًا؟ ثُمَّ قَامُوا عَنْهُ، فَقَالَ أَبُو يَاسِرٍ لِأَخِيهِ
حُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ وَلِمَنْ مَعَهُ مِنْ الْأَحْبَارِ: مَا يُدْرِيكُمْ
لَعَلَّهُ قَدْ جُمِعَ هَذَا كُلُّهُ لِمُحَمَّدٍ، إحْدَى وَسَبْعُونَ، وَإِحْدَى
وَسِتُّونَ وَمِئَةً، وَإِحْدَى وَثَلَاثُونَ ومائتان، وَإِحْدَى وَسَبْعُونَ
وَمِئَتَانِ، فَذَلِكَ سَبْعُ مِئَةٍ وَأَرْبَعٌ وَثَلَاثُونَ سَنَةً [٤]،
فَقَالُوا: لَقَدْ تَشَابَهَ عَلَيْنَا أَمْرُهُ. فَيَزْعُمُونَ أَنَّ هَؤُلَاءِ
[١] الْأكل (بِالضَّمِّ): الرزق وَالطَّعَام.
وَيُرِيد «بِأَكْل أمته»: طول مدتهم.
[٢]
فِي أ: «سِتُّونَ»، وَهُوَ خطأ.
[٣]
فِي أ: «إِحْدَى وَثَلَاثُونَ»، وَهُوَ خطأ مبْنى على التَّقْدِير السَّابِق للصاد.
[٤]
فِي أ: «وَأَرْبع سِنِين»، وَهُوَ خطأ أَيْضا.
الْآيَاتِ نَزَلَتْ فِيهِمْ: مِنْهُ
آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ، وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ ٣: ٧. قَالَ ابْنُ
إسْحَاقَ: وَقَدْ سَمِعْتُ مَنْ لَا أَتَّهِمُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يَذْكُرُ:
أَنَّ هَؤُلَاءِ الْآيَاتِ إنَّمَا أُنْزِلْنَ فِي أَهْلِ نَجْرَانَ، حَيْنَ
قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ يَسْأَلُونَهُ عَنْ عِيسَى بن مَرْيَمَ عليه
السلام.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَدْ
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ، أَنَّهُ
قَدْ سَمِعَ: أَنَّ هَؤُلَاءِ الْآيَاتِ إنَّمَا أُنْزِلْنَ فِي نَفَرٍ مِنْ
يَهُودَ، وَلَمْ يُفَسِّرْ ذَلِكَ لِي. فاللَّه أَعْلَمُ أَيُّ ذَلِكَ كَانَ.
(كُفْرُ
الْيَهُودِ بِهِ ﷺ بَعْدَ اسْتِفْتَاحِهِمْ بِهِ، وَمَا نَزَلَ فِي ذَلِكَ):
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَكَانَ
فِيمَا بَلَغَنِي عَنْ عِكْرِمَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، أَوْ عَنْ سَعِيدِ ابْن
جُبَيْرٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ يَهُودَ كَانُوا يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى
الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ بِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ قَبْلَ مَبْعَثِهِ، فَلَمَّا
بَعَثَهُ اللَّهُ مِنْ الْعَرَبِ كَفَرُوا بِهِ، وَجَحَدُوا مَا كَانُوا
يَقُولُونَ فِيهِ. فَقَالَ لَهُمْ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ. وَبِشْرُ بْنُ الْبَرَاءِ
بْنِ مَعْرُورٍ، أَخُو بَنِي سَلِمَةَ: يَا مَعْشَرَ يَهُودَ، اتَّقُوا اللَّهَ
وَأَسْلِمُوا، فَقَدْ كُنْتُمْ تَسْتَفْتِحُونَ عَلَيْنَا بِمُحَمَّدٍ وَنَحْنُ
أَهْلُ شِرْكٍ، وَتُخْبِرُونَنَا أَنَّهُ مَبْعُوثٌ، وَتَصِفُونَهُ لَنَا
بِصِفَّتِهِ، فَقَالَ سَلَامُ بْنُ مِشْكَمٍ، أَحَدُ بَنِي النَّضِيرِ: مَا
جَاءَنَا بِشَيْءٍ نَعْرِفُهُ، وَمَا هُوَ بِاَلَّذِي كُنَّا نَذْكُرُهُ لَكُمْ،
فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمْ: وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ
عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ
عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا، فَلَمَّا جاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ،
فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ ٢: ٨٩.
(مَا
نَزَلَ فِي نُكْرَانِ مَالِكِ بْنِ الصَّيْفِ الْعَهْدَ إلَيْهِمْ بِالنَّبِيِّ):
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَالَ
مَالِكُ بْنُ الصَّيْفِ [١]، حَيْنَ بُعِثَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، - وَذَكَرَ لَهُمْ
مَا أُخِذَ عَلَيْهِمْ لَهُ مِنْ الْمِيثَاقِ، وَمَا عَهِدَ اللَّهُ إلَيْهِمْ
فِيهِ:
وَاَللَّهِ مَا عُهِدَ إلَيْنَا فِي
مُحَمَّدٍ عَهْدٌ، وَمَا أُخِذَ لَهُ عَلَيْنَا مِنْ مِيثَاقٍ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ
فِيهِ:
[١] فِي أ: «الضَّيْف» بالضاد الْمُعْجَمَة،
وهما رِوَايَتَانِ فِيهِ.
أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْدًا
نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ، بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ٢: ١٠٠
(مَا
نَزَلَ فِي قَوْلِ أَبِي صَلُوبا: «مَا جِئْتنَا بِشَيْءٍ نَعْرِفُهُ»):
وَقَالَ أَبُو [١] صَلُوبا
الْفَطْيُونِيُّ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ: يَا مُحَمَّدُ، مَا جِئْتَنَا بِشَيْءٍ
نَعْرِفُهُ، وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ مِنْ آيَةٍ فَنَتَّبِعَكَ لَهَا.
فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ: وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ
آياتٍ بَيِّناتٍ وَما يَكْفُرُ بِها إِلَّا الْفاسِقُونَ ٢: ٩٩.
(مَا
نَزَلَ فِي قَوْلِ ابْنِ حُرَيْمِلَةَ وَوَهْبٍ):
وَقَالَ رَافِعُ بْنُ حُرَيْمِلَةَ،
وَوَهْبُ بْنُ زَيْدٍ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ:
يَا مُحَمَّدُ، ائْتِنَا بِكِتَابٍ
تُنَزِّلُهُ عَلَيْنَا مِنْ السَّمَاءِ نَقْرَؤُهُ، وَفَجِّرْ لَنَا أَنَهَارًا
نَتَّبِعْكَ وَنُصَدِّقْكَ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ مِنْ
قَوْلِهِمَا: أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ
قَبْلُ، وَمن يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ
٢: ١٠٨.
(تَفْسِيرُ
ابْنِ هِشَامٍ لِبَعْضِ الْغَرِيبِ):
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: سَوَاءُ
السَّبِيلِ: وَسَطُ السَّبِيلِ. قَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ:
يَا وَيْحَ أَنْصَارِ النَّبِيِّ
وَرَهْطِهِ ... بَعْدَ الْمُغَيَّبِ فِي سَوَاءِ الْمُلْحَدِ [٢]
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ
لَهُ سَأَذْكُرُهَا فِي مَوْضِعِهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى:
(مَا
نَزَلَ فِي صَدِّ حُيَيٍّ وَأَخِيهِ النَّاسَ عَنْ الْإِسْلَامِ):
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَكَانَ
حُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ وَأَخُوهُ أَبُو يَاسِرِ بْنِ أَخْطَبَ، مِنْ أَشَدِّ
يَهُودَ لِلْعَرَبِ حَسَدًا، إذْ خَصَّهُمْ اللَّهُ تَعَالَى بِرَسُولِهِ ﷺ،
وَكَانَا جَاهِدَيْنِ فِي رَدِّ النَّاسِ عَنْ الْإِسْلَامِ بِمَا اسْتَطَاعَا.
فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمَا: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ
يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ
أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ، فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا
حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ، إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ٢:
١٠٩.
[١] فِي م، ر: «ابْن» .
[٢]
الملحد: الْقَبْر.
(تَنَازُعُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى
عِنْدَ الرَّسُولِ ﷺ:
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَلَمَّا
قَدِمَ أَهْلُ نَجْرَانَ مِنْ النَّصَارَى عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَتَتْهُمْ
أَحْبَارُ يَهُودَ، فَتَنَازَعُوا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَقَالَ رَافِعُ بْنُ
حُرَيْمِلَةَ: مَا أَنْتُمْ عَلَى شَيْءٍ، وَكَفَرَ بِعِيسَى وَبِالْإِنْجِيلِ،
فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ نَجْرَانَ مِنْ النَّصَارَى لِلْيَهُودِ: مَا أَنْتُمْ
عَلَى شَيْءٍ، وَجَحَدَ نُبُوَّةَ مُوسَى وَكَفَرَ بِالتَّوْرَاةِ فَأَنْزَلَ
اللَّهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمْ: وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ
النَّصارى عَلى شَيْءٍ، وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ،
وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ، كَذلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ
قَوْلِهِمْ، فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ
يَخْتَلِفُونَ ٢: ١١٣، أَيْ كُلٌّ يَتْلُو فِي كِتَابِهِ تَصْدِيقَ مَا كَفَرَ
بِهِ، أَيْ يَكْفُرُ الْيَهُودُ بِعِيسَى، وَعِنْدَهُمْ التَّوْرَاةُ فِيهَا مَا
أَخَذَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ عَلَى لِسَانِ مُوسَى عليه السلام بِالتَّصْدِيقِ
بِعِيسَى عليه السلام، وَفِي الْإِنْجِيلِ مَا جَاءَ بِهِ عِيسَى عليه السلام،
مِنْ تَصْدِيقِ مُوسَى عليه السلام، وَمَا جَاءَ بِهِ مِنْ التَّوْرَاةِ مِنْ
عِنْدِ اللَّهِ، وَكُلٌّ يَكْفُرُ بِمَا فِي يَدِ صَاحِبِهِ.
(مَا
نَزَلَ فِي طَلَبِ ابْنِ حُرَيْمِلَةَ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ):
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَالَ
رَافِعُ بْنُ حُرَيْمِلَةَ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ:
يَا مُحَمَّدُ، إنْ كُنْتَ رَسُولًا
مِنْ اللَّهِ كَمَا تَقُولُ، فَقُلْ للَّه فَلْيُكَلِّمْنَا حَتَّى نَسْمَعَ
كَلَامَهُ.
فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِي
ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ: وَقال الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا
اللَّهُ، أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ كَذلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ
قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ، قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ
٢: ١١٨.
(مَا
نَزَلَ فِي سُؤَالِ ابْنِ صُورِيَّا لِلنَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام بِأَنْ
يَتَهَوَّدَ):
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
صُورِيَّا الْأَعْوَرُ الْفَطْيُونِيُّ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ:
مَا الْهُدَى إلَّا مَا نَحْنُ
عَلَيْهِ، فَاتَّبِعْنَا يَا مُحَمَّدُ تَهْتَدِ، وَقَالَتْ النَّصَارَى مِثْلَ
ذَلِكَ.
فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِي
ذَلِكَ مِنْ قَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صُورِيَّا وَمَا قَالَتْ النَّصَارَى:
وَقالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا، قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ
حَنِيفًا وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ٢: ١٣٥. ثُمَّ الْقِصَّةَ إلَى قَوْلِ
اللَّهِ تَعَالَى: تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ،
لَها مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا
كَسَبْتُمْ، وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ ٢: ١٣٤.
(مَقَالَةُ
الْيَهُودِ عِنْدَ صَرْفِ الْقِبْلَةِ إلَى الْكَعْبَةِ):
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَلَمَّا
صُرِفَتْ الْقِبْلَةُ عَنْ الشَّامِ إلَى الْكَعْبَةِ، وَصُرِفَتْ فِي رَجَبٍ
عَلَى رَأْسِ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا مِنْ مَقْدَمِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ
الْمَدِينَةَ، أَتَى رَسُولَ اللَّهِ ﷺ رِفَاعَةُ بْنُ قَيْسٍ، وَقَرْدَمُ بْنُ عَمْرٍو،
وَكَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ، وَرَافِعُ بْنُ أَبِي رَافِعٍ، وَالْحَجَّاجُ بْنُ
عَمْرٍو، حَلِيفُ كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ، وَالرَّبِيعُ بْنُ الرَّبِيعِ بْنِ
أَبِي الْحُقَيْقِ، وَكِنَانَةُ بْنُ الرَّبِيعِ بْنِ أَبِي الْحُقَيْقِ،
فَقَالُوا:
يَا مُحَمَّدُ، مَا وَلَّاكَ عَنْ
قِبْلَتِكَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا وَأَنْتَ تَزْعُمُ أَنَّكَ عَلَى مِلَّةِ
إبْرَاهِيمَ وَدِينِهِ؟ ارْجِعْ إلَى قِبْلَتِكَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا
نَتَّبِعْكَ وَنُصَدِّقْكَ، وَإِنَّمَا يُرِيدُونَ بِذَلِكَ فِتْنَتَهُ عَنْ
دِينِهِ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ: سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ
النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها، قُلْ لِلَّهِ
الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ، يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ.
وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ،
وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا. وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي
كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ
عَلى عَقِبَيْهِ ٢: ١٤٢- ١٤٣، أَيْ ابْتِلَاءً وَاخْتِبَارًا وَإِنْ كانَتْ
لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ ٢: ١٤٣، أَيْ مِنْ الْفِتَنِ:
أَيْ الَّذِينَ ثَبَّتَ اللَّهُ وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ ٢: ١٤٣،
أَيْ إيمَانَكُمْ بِالْقِبْلَةِ الْأُولَى، وَتَصْدِيقَكُمْ نَبِيَّكُمْ، وَاتِّبَاعَكُمْ
إيَّاهُ إلَى الْقِبْلَةِ الْآخِرَةِ، وَطَاعَتَكُمْ نَبِيَّكُمْ فِيهَا: أَيْ
لَيُعْطِيَنَّكُمْ أَجْرَهُمَا جَمِيعًا إِنَّ الله بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ
٢: ١٤٣.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: قَدْ نَرى
تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها، فَوَلِّ
وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ، وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا
وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ٢: ١٤٤.
(تَفْسِيرُ
ابْنِ هِشَامٍ لِبَعْضِ الْغَرِيبِ):
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: شَطْرَهُ:
نَحْوَهُ وَقَصْدَهُ. قَالَ عَمْرُو بْنُ أَحْمَرَ الْبَاهِلِيُّ- وَبَاهِلَةُ
ابْن يَعْصِرَ بْنِ سَعْدِ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَيْلَانَ- يَصِفُ نَاقَةً لَهُ:
تَعْدُو بِنَا شَطْرَ جَمْعٍ وَهِيَ
عَاقِدَةٌ ... قَدْ كارَبَ الْعَقْدُ مِنْ إيفَادِهَا الْحَقَبَا [١]
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ
لَهُ.
وَقَالَ قَيْسُ بْنُ خُوَيْلِدٍ
الْهُذَلِيُّ يَصِفُ نَاقَتَهُ:
إنَّ النَّعُوسَ [٢] بِهَا دَاءٌ
مُخَامِرُهَا ... فَشَطْرَهَا نَظَرُ الْعَيْنَيْنِ مَحْسُورُ [٣]
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي أَبْيَاتٍ
لَهُ [٤]:
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَالنَّعُوسُ:
نَاقَتُهُ، وَكَانَ بِهَا دَاءٌ فَنَظَرَ إلَيْهَا نَظَرَ حَسِيرٍ، مِنْ قَوْلِهِ:
وَهُوَ حَسِيرٌ.
وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ
لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ، وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا
يَعْمَلُونَ. وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا
تَبِعُوا قِبْلَتَكَ، وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ، وَما بَعْضُهُمْ
بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ، وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا
جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ، إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ ٢: ١٤٤- ١٤٥.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: إلَى قَوْلِهِ
تَعَالَى: الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ- فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ٢: ١٤٧.
(كِتْمَانُهُمْ
مَا فِي التَّوْرَاةِ مِنْ الْحَقِّ):
وَسَأَلَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، أَخُو
بَنِي سَلِمَةَ، وَسَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ، أَخُو بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ
وَخَارِجَةُ بْنُ زَيْدٍ، أَخُو بَلْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ، نَفَرًا مِنْ
أَحْبَارِ يَهُودَ عَنْ بَعْضِ.
مَا فِي التَّوْرَاةِ، فَكَتَمُوهُمْ
إيَّاهُ، وَأَبَوْا أَنْ يُخْبِرُوهُمْ عَنْهُ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى
فِيهِمْ:
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا
أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ
فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ ٢: ١٥٩.
[١] عاقدة: يصف نَاقَته بِأَنَّهَا عقدت
ذنبها بَين فخذيها، وَذَلِكَ أول مَا تحمل. والإيفاد: الإشراف.
والحقب: حَبل يشد بِهِ الرحل إِلَى
بطن الْبَعِير.
[٢]
النعوس: الْكَثِيرَة النعاس. ويروى: «العسير»، وَهِي النَّاقة الَّتِي تركب قبل
أَن ترَاض وتلين
[٣]
مخامرها: مخالطها. ومحسور: أَي معجز.
[٤]
هَذِه الْعبارَة سَاقِطَة فِي أ.
(جَوَابُهُمْ لِلنَّبِيِّ عليه الصلاة
والسلام حِينَ دَعَاهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ):
قَالَ: وَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ
الْيَهُودَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إلَى الْإِسْلَامِ وَرَغَّبَهُمْ فِيهِ،
وَحَذَّرَهُمْ عَذَابَ اللَّهِ وَنِقْمَتَهُ، فَقَالَ لَهُ رَافِعُ بْنُ
خَارِجَةَ، وَمَالِكُ ابْن عَوْفٍ: بَلْ نَتْبَعُ يَا مُحَمَّدُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ
آبَاءَنَا، فَهُمْ كَانُوا أَعْلَمَ وَخَيْرًا مِنَّا.
فَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل فِي
ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمَا: وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ
قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا، أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ
لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ ٢: ١٧٠.
(جَمْعُهُمْ فِي سُوقِ بَنِي قَيْنُقَاعَ):
وَلَمَّا أَصَابَ اللَّهُ عز وجل قُرَيْشًا يَوْمَ بَدْرٍ جَمَعَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَهُودَ فِي سُوقِ بَنِي قَيْنُقَاعَ، حَيْنَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ يَهُودَ، أَسْلِمُوا قَبْلَ أَنْ يُصِيبَكُمْ اللَّهُ بِمِثْلِ مَا أَصَابَ بِهِ قُرَيْشًا، فَقَالُوا لَهُ: يَا مُحَمَّدُ، لَا يَغِرُّنَّكَ مِنْ نَفْسِكَ أَنَّكَ قَتَلْتَ نَفَرًا مِنْ قُرَيْشٍ، كَانُوا أَغْمَارًا [١] لَا يَعْرِفُونَ الْقِتَالَ، إنَّكَ وَاَللَّهِ لَوْ قَاتَلْتنَا لَعَرَفْتَ أَنَّا نَحْنُ النَّاسُ، وَأَنَّكَ لَمْ تَلْقَ مِثْلَنَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمْ قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ، قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا، فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَأُخْرى كافِرَةٌ، يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ، وَالله يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ ٣: ١٢- ١٣.
(دُخُولُهُ ﷺ بَيْتَ الْمِدْرَاسِ):
قَالَ: وَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بَيْتَ الْمِدْرَاسِ [٢] عَلَى جَمَاعَةٍ مِنْ يَهُودَ، فَدَعَاهُمْ إلَى اللَّهِ، فَقَالَ لَهُ النُّعْمَانُ بْنُ عَمْرٍو، وَالْحَارِثُ بْنُ زَيْدٍ: عَلَى أَيِّ دِينٍ أَنْتَ يَا مُحَمَّدُ؟ قَالَ: عَلَى مِلَّةِ إبْرَاهِيمَ وَدِينِهِ، قَالَا: فَإِنَّ إبْرَاهِيمَ كَانَ يَهُودِيًّا، فَقَالَ لَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: فَهَلُمَّ إلَى التَّوْرَاةِ، فَهِيَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ،
[١] الأغمار: جمع غمر، وَهُوَ الّذي لم يجرب
الْأُمُور.
[٢]
كَذَا فِي أ. وَبَيت الْمِدْرَاس: هُوَ بَيت الْيَهُود حَيْثُ يتدارسون فِيهِ
كِتَابهمْ. وَفِي سَائِر الْأُصُول:
«بَيت الْمدَارِس»
فَأَبَيَا عَلَيْهِ. فَأَنْزَلَ
اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمَا: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ
الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ، ثُمَّ
يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ. ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ
تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُوداتٍ، وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا
كانُوا يَفْتَرُونَ ٣: ٢٣- ٢٤.
(اخْتِلَافُ
الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فِي إبْرَاهِيمَ عليه السلام:
وَقَالَ أَحْبَارُ يَهُودَ
وَنَصَارَى نَجْرَانَ، حَيْنَ اجْتَمَعُوا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ
فَتَنَازَعُوا، فَقَالَتْ الْأَحْبَارُ: مَا كَانَ إبْرَاهِيمُ إلَّا يَهُودِيًّا،
وَقَالَتْ النَّصَارَى مِنْ أَهْلِ نَجْرَانَ: مَا كَانَ إبْرَاهِيمُ إلَّا
نَصْرَانِيًّا. فَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل فِيهِمْ: يَا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ
تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا
مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ، هَا أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ
بِهِ عِلْمٌ، فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ، وَالله
يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ.
مَا كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا
وَلا نَصْرانِيًّا، وَلكِنْ كانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا، وَما كانَ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ: إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ،
وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَالله وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ ٣: ٦٥- ٦٨.
(مَا
نَزَلَ فِيمَا هَمَّ بِهِ بَعْضُهُمْ مِنْ الْإِيمَانِ غَدْوَةً، وَالْكُفْرِ
عَشِيَّةً):
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَيْفٍ
[١]، وَعَدِيُّ بْنُ زَيْدٍ، وَالْحَارِثُ بْنُ عَوْفٍ، بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ:
تَعَالَوْا نُؤْمِنْ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ غُدْوَةً،
وَنَكْفُرْ بِهِ عَشِيَّةً، حَتَّى نَلْبِسَ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ لَعَلَّهُمْ
يَصْنَعُونَ كَمَا نَصْنَعُ، وَيَرْجِعُونَ عَنْ دِينِهِ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ
تَعَالَى فِيهِمْ: يَا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ،
وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ. وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ
الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ
وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ.
وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ
تَبِعَ دِينَكُمْ، قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ
مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ، قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ
اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ، وَالله واسِعٌ عَلِيمٌ ٣: ٧١- ٧٣.
[١] فِي أ: «ضيف» بالضاد الْمُعْجَمَة، وهما
رِوَايَتَانِ فِيهِ.
(مَا نَزَلَ فِي قَوْلِ أَبِي رَافِعٍ
وَالنَّجْرَانِيِّ «أَتُرِيدُ أَنْ نَعْبُدَكَ كَمَا تَعْبُدُ النَّصَارَى عِيسَى»):
وَقَالَ أَبُو رَافِعٍ الْقُرَظِيُّ،
حَيْنَ اجْتَمَعَتْ الْأَحْبَارُ مِنْ يَهُودَ، وَالنَّصَارَى مِنْ أَهْلِ
نَجْرَانَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَدَعَاهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ: أَتُرِيدُ
مِنَّا يَا مُحَمَّدُ أَنْ نَعْبُدَكَ كَمَا تَعْبُدُ النَّصَارَى عِيسَى بن
مَرْيَمَ؟ وَقَالَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ نَجْرَانَ نَصْرَانِيٌّ، يُقَالُ لَهُ:
الرِّبَيِّسُ، (وَيُرْوَى: الرَّيِّسُ، وَالرَّئِيسُ) [١]: أَوَذَاكَ تُرِيدُ
مِنَّا يَا مُحَمَّدُ وَإِلَيْهِ تَدْعُونَا؟ أَوْ كَمَا قَالَ. فَقَالَ رَسُولُ
اللَّهِ ﷺ: مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ أَعْبُدَ غَيْرَ اللَّهِ أَوْ آمُرَ بِعِبَادَةِ
غَيْرِهِ، فَمَا بِذَلِكَ بَعَثَنِي اللَّهُ، وَلَا أَمَرَنِي، أَوْ كَمَا قَالَ.
فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمَا: مَا كانَ لِبَشَرٍ أَنْ
يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ، ثُمَّ يَقُولَ
لِلنَّاسِ كُونُوا عِبادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَلكِنْ كُونُوا
رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ، وَبِما كُنْتُمْ
تَدْرُسُونَ ٣: ٧٩ ... إلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ
٣: ٨٠.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ:
الرَّبَّانِيُّونَ: الْعُلَمَاءُ الْفُقَهَاءُ السَّادَةُ، وَاحِدُهُمْ:
رَبَّانِيٌّ [٢] .
قَالَ الشَّاعِرُ:
لَوْ كُنْتُ مُرْتَهِنًا [٣] فِي
الْقَوْسِ أَفْتَنَنِي ... مِنْهَا الْكَلَامُ وَرَبَّانِيَّ أَحْبَارِ
(تَفْسِيرُ
ابْنِ هِشَامٍ لِبَعْضِ الْغَرِيبِ):
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: الْقَوْسُ:
صَوْمَعَةُ الرَّاهِبِ. وَأَفْتَنَنِي، لُغَةُ تَمِيمٍ. وَفَتَنَنِي، لُغَةُ
قَيْسٍ [٤] .
قَالَ جَرِيرٌ:
[١] هَذِه الْعبارَة سَاقِطَة فِي أ.
[٢]
وَقيل الربانيون: الَّذين يربون النَّاس بصغار الْعلم قبل كباره، وَقيل: نسبوا
إِلَى علم الرب وَالْفِقْه فِيمَا أنزل، وزيدت فِيهِ الْألف وَالنُّون لتضخيم
الِاسْم (عَن السهيليّ) .
[٣]
مرتهنا: أَي مُقيما. ويروى: «مرتهبا» بِالْبَاء بدل النُّون، وَهُوَ من الرهبانية،
وَهِي عبَادَة النَّصَارَى.
[٤]
قَالَ السهيليّ: ومآل هَذَا الْفرق إِلَى أَن «فتنته» صرفته، فجَاء على وَزنه،
لِأَن الْمفْتُون مَصْرُوف عَن حق، و«أفتنته» أضللته وأغويته، فجَاء على وزن مَا
هُوَ فِي مَعْنَاهُ. وَأما «فتنت» الحديدة فِي النَّار، فعلى وزن فعلت لَا غير،
لِأَنَّهَا فِي معنى خبرتها وبلوتها وَنَحْو ذَلِك.
لَا وَصْلَ إذْ صَرَمَتْ هِنْدٌ
وَلَوْ وَقَفَتْ ... لَاسْتَنْزَلَتْنِي وَذَا الْمِسْحَيْنِ فِي الْقَوْسِ
أَيْ صَوْمَعَةَ الرَّاهِبِ.
وَالرَّبَّانِيُّ: مُشْتَقٌّ مِنْ الرَّبِّ، وَهُوَ السَّيِّدُ. وَفِي كِتَابِ
اللَّهِ:
فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا ١٢: ٤١،
أَيْ سَيِّدَهُ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَلا
يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبابًا
أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ٣: ٨٠.
(مَا
نَزَلَ فِي أَخْذِ الْمِيثَاقِ عَلَيْهِمْ):
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: ثُمَّ ذَكَرَ
مَا أَخَذَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَعَلَى أَنْبِيَائِهِمْ مِنْ الْمِيثَاقِ
بِتَصْدِيقِهِ إذْ هُوَ جَاءَهُمْ، وَإِقْرَارَهُمْ، فَقَالَ: وَإِذْ أَخَذَ
اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ، ثُمَّ
جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ،
قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي، قالُوا أَقْرَرْنا،
قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ ٣: ٨١ إلَى آخِرِ
الْقِصَّةِ.
(سَعْيُهُمْ
فِي الْوَقِيعَةِ بَيْنَ الْأَنْصَارِ):
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَمَرَّ شَاسُ
بْنُ قَيْسٍ، وَكَانَ شَيْخًا قَدْ عَسَا [١]، عَظِيمَ الْكُفْرِ شَدِيدَ
الضَّغَنِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، شَدِيدَ الْحَسَدِ لَهُمْ، عَلَى نَفَرٍ مِنْ
أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ مِنْ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ. فِي مَجْلِسٍ قَدْ
جَمَعَهُمْ، يَتَحَدَّثُونَ فِيهِ، فَغَاظَهُ مَا رَأَى مِنْ أُلْفَتِهِمْ
وَجَمَاعَتِهِمْ، وَصَلَاحِ ذَاتِ بَيْنِهِمْ عَلَى الْإِسْلَامِ، بَعْدَ الَّذِي
كَانَ بَيْنَهُمْ مِنْ الْعَدَاوَةِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ. فَقَالَ: قَدْ اجْتَمَعَ
مَلَأُ [٢] بَنِي قَيْلَةَ بِهَذِهِ الْبِلَادِ، لَا وَاَللَّهِ مَا لَنَا
مَعَهُمْ إذَا اجْتَمَعَ مَلَؤُهُمْ بِهَا مِنْ قَرَارٍ. فَأَمَرَ فَتًى شَابًّا
مِنْ يَهُودَ كَانَ مَعَهُمْ، فَقَالَ: اعْمِدْ إلَيْهِمْ، فَاجْلِسْ مَعَهُمْ،
ثُمَّ اُذْكُرْ يَوْمَ بُعَاثَ [٣] وَمَا كَانَ قَبْلَهُ وَأَنْشِدْهُمْ بَعْضَ
مَا كَانُوا تَقَاوَلُوا فِيهِ مِنْ الْأَشْعَارِ.
(شَيْءٌ
عَنْ يَوْمِ بُعَاثَ):
وَكَانَ يَوْمُ بُعَاثَ يَوْمًا
اقْتَتَلَتْ فِيهِ الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ، وَكَانَ الظَّفْرُ فِيهِ يَوْمئِذٍ
[١] عسا: أسن وَولى.
[٢]
مَلأ الْقَوْم: أَشْرَافهم، وَقيل: جَمَاعَتهمْ.
[٣]
بُعَاث: يرْوى بِالْعينِ الْمُهْملَة وَلَيْسَ بالغين الْمُعْجَمَة.
لِلْأَوْسِ عَلَى الْخَزْرَجِ،
وَكَانَ عَلَى الْأَوْسِ يَوْمئِذٍ حُضَيْرُ بْنُ سِمَاكٍ الْأَشْهَلِيُّ، أَبُو
أُسَيْدِ بْنُ حُضَيْرٍ، وَعَلَى الْخَزْرَجِ عَمْرُو بْنُ النُّعْمَانِ
البَيَاضِيُّ، فَقُتِلَا جَمِيعًا.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: قَالَ أَبُو
قَيْسِ بْنُ الْأَسْلَتِ:
عَلَى أَنْ قَدْ فُجِعْتُ بِذِي
حِفَاظٍ ... فَعَاوَدَنِي لَهُ حُزْنٌ رَصِينُ [١]
فَإِمَّا تَقْتُلُوهُ فَإِنَّ
عَمْرًا ... أَعَضَّ بِرَأْسِهِ عَضْبٌ سَنِينُ [٢]
وَهَذَانِ الْبَيْتَانِ فِي
قَصِيدَةٍ لَهُ. وَحَدِيثُ يَوْمِ بُعَاثَ أَطْوَلُ مِمَّا ذَكَرْتُ، وَإِنَّمَا
مَنَعَنِي مِنْ اسْتِقْصَائِهِ مَا ذَكَرْتُ مِنْ الْقَطْعِ.
(تَفْسِيرُ
ابْنِ هِشَامٍ لِبَعْضِ الْغَرِيبِ):
[٣]
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: سَنِينُ: مَسْنُونٌ، مِنْ سَنَّهُ، إذَا شَحَذَهُ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَفَعَلَ.
فَتَكَلَّمَ الْقَوْمُ عِنْدَ ذَلِكَ وَتَنَازَعُوا وَتَفَاخَرُوا حَتَّى
تَوَاثَبَ رَجُلَانِ مِنْ الْحَيَّيْنِ عَلَى الرُّكْبِ، أَوْسُ بْنُ قَيْظِيٍّ،
أَحَدُ بَنِي حَارِثَةَ بْنِ الْحَارِثِ، مِنْ الْأَوْسِ، وَجَبَّارُ بْنُ صَخْرٍ،
أَحَدُ بَنِي سَلِمَةَ مِنْ الْخَزْرَجِ، فَتَقَاوَلَا ثُمَّ قَالَ أَحَدُهُمَا
لِصَاحِبِهِ: إنْ شِئْتُمْ رَدَدْنَاهَا الْآنَ جَذَعَةً [٤]، فَغَضِبَ
الْفَرِيقَانِ جَمِيعًا، وَقَالُوا: قَدْ فَعَلْنَا، مَوْعِدُكُمْ الظَّاهِرَةُ-
وَالظَّاهِرَةُ: الْحرَّةُ- السِّلَاحَ السِّلَاحَ.
فَخَرَجُوا إلَيْهَا. فَبَلَغَ
ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، فَخَرَجَ إلَيْهِمْ فِيمَنْ مَعَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ
الْمُهَاجِرِينَ حَتَّى جَاءَهُمْ، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ، اللَّهَ
اللَّهَ، أَبِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ بَعْدَ أَنْ
هَدَاكُمْ اللَّهُ لِلْإِسْلَامِ، وَأَكْرَمَكُمْ بِهِ، وَقَطَعَ بِهِ عَنْكُمْ
أَمْرَ الْجَاهِلِيَّةِ، وَاسْتَنْقَذَكُمْ بِهِ مِنْ الْكُفْرِ، وَأَلَّفَ بِهِ
بَيْنَ قُلُوبِكُمْ، فَعَرَفَ الْقَوْمُ أَنَّهَا نَزْغَةٌ [٥] مِنْ الشَّيْطَانِ،
وَكَيْدٌ مِنْ عَدُوِّهِمْ، فَبَكَوْا وَعَانَقَ الرِّجَالُ مِنْ الْأَوْسِ
وَالْخَزْرَجِ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، ثُمَّ انْصَرَفُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ
سَامِعِينَ مُطِيعِينَ، قَدْ أَطْفَأَ اللَّهُ عَنْهُمْ كَيْدَ عَدُوِّ اللَّهِ
شَأْسِ بْنِ قَيِّسْ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ
[١] الْحفاظ: الْغَضَب. ورصين: ثَابت دَائِم.
[٢]
الْغَضَب: السَّيْف الْقَاطِع.
[٣]
هَذِه الْعبارَة من قَوْله «قَالَ» إِلَى قَوْله «شحذه» سَاقِطَة فِي أ.
[٤]
رددناها الْآن جَذَعَة: أَي رددنا الآخر إِلَى أَوله.
[٥]
النزغة: الْإِفْسَاد بَين النَّاس.
تَعَالَى فِي شَأْسِ بْنِ قَيْسٍ
وَمَا صَنَعَ: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ،
وَالله شَهِيدٌ عَلى مَا تَعْمَلُونَ. قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ
عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجًا، وَأَنْتُمْ شُهَداءُ، وَمَا
اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ٣: ٩٨- ٩٩.
وَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي أَوْسِ بْنِ
قَيْظِيٍّ وَجَبَّارِ بْنِ صَخْرٍ وَمَنْ كَانَ مَعَهُمَا مِنْ قَوْمِهِمَا
الَّذِينَ صَنَعُوا مَا صَنَعُوا عَمَّا أَدْخَلَ عَلَيْهِمْ شَأْسٌ مِنْ أَمْرِ
الْجَاهِلِيَّةِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ
الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ. وَكَيْفَ
تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ،
وَمن يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ. يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ، وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا
وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ٣: ١٠٠- ١٠٢ ... إلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأُولئِكَ
لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ ٣: ١٠٥.
(مَا
نَزَلَ فِي قَوْلِهِمْ: «مَا آمَنَ إلَّا شِرَارُنَا»):
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَلَمَّا
أَسْلَمَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ، وَثَعْلَبَةُ بْنُ سَعْيَةَ، وَأُسَيْدُ
بْنُ سَعْيَةَ، وَأَسَدُ بْنُ عُبَيْدٍ، وَمَنْ أَسْلَمَ مِنْ يَهُودَ مَعَهُمْ،
فَآمَنُوا وَصَدَّقُوا وَرَغِبُوا فِي الْإِسْلَامِ، وَرَسَخُوا فِيهِ، قَالَتْ
أَحْبَارُ يَهُودَ، أَهْلِ الْكُفْرِ مِنْهُمْ: مَا آمَنَ بِمُحَمَّدٍ وَلَا
اتَّبَعَهُ إلَّا شِرَارُنَا، وَلَوْ كَانُوا مِنْ أَخْيَارِنَا مَا تَرَكُوا
دِينَ آبَائِهِمْ وَذَهَبُوا إلَى غَيْرِهِ.
فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِي
ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمْ: لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ
يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ ٣: ١١٣.
(تَفْسِيرُ
ابْنِ هِشَامٍ لِبَعْضِ الْغَرِيبِ):
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: آنَاءَ
اللَّيْلِ: سَاعَاتِ اللَّيْلِ: وَوَاحِدُهَا: إنْيٌ. قَالَ الْمُتَنَخِّلُ
الْهُذَلِيُّ، وَاسْمُهُ مَالِكُ بْنُ عُوَيْمِرٍ، يَرْثِي أُثَيْلَةَ ابْنَهُ:
حُلْوٌ وَمُرٌّ كَعَطْفِ الْقِدْحِ
شِيمَتُهُ ... فِي كُلِّ إنْيٍ قَضَاهُ اللَّيْلُ يَنْتَعِلُ [١]
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ
لَهُ. وَقَالَ لَبِيدُ بْنُ رَبِيعَةَ، يَصِفُ حِمَارَ وَحْشٍ:
[١] الْقدح: السهْم.
يُطَرِّبُ آنَاءَ النَّهَارِ
كَأَنَّهُ ... غَوِيٌّ [١] سَقَاهُ فِي التِّجَارِ [٢] نَدِيمُ
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ
لَهُ، وَيُقَالُ: إنًى (مَقْصُورٌ) [٣]، فِيمَا أَخْبَرَنِي يُونُسُ [٤]
.
يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ
الْآخِرِ، وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ، وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ،
وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ، وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ ٣: ١١٤.
(مَا
نَزَلَ فِي نَهْيِ الْمُسْلِمِينَ عَنْ مُبَاطَنَةِ الْيَهُودِ):
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَكَانَ
رِجَالٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يُوَاصِلُونَ رِجَالًا مِنْ الْيَهُودِ، لِمَا كَانَ
بَيْنَهُمْ مِنْ الْجِوَارِ وَالْحِلْفِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ
يَنْهَاهُمْ عَنْ مُبَاطَنَتِهِمْ:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا
تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ، لَا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا وَدُّوا مَا
عَنِتُّمْ، قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ
أَكْبَرُ، قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ. هَا
أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ، وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ
كُلِّهِ ٣: ١١٨- ١١٩، أَيْ تُؤْمِنُونَ بِكِتَابِكُمْ، وَبِمَا مَضَى مِنْ
الْكُتُبِ قَبْلَ ذَلِكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِكِتَابِكُمْ، فَأَنْتُمْ كُنْتُمْ
أَحَقَّ بِالْبَغْضَاءِ لَهُمْ مِنْهُمْ لَكُمْ وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا،
وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ، قُلْ مُوتُوا
بِغَيْظِكُمْ ٣: ١١٩ إلَى آخِرِ الْقِصَّةِ.
(مَا
كَانَ بَيْنَ أَبِي بَكْرٍ وَفِنْحَاصٍ):
وَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ
بَيْتَ الْمِدْرَاسِ [٥] عَلَى يَهُودَ، فَوَجَدَ مِنْهُمْ نَاسًا كَثِيرًا قَدْ
اجْتَمَعُوا إلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ، يُقَالُ لَهُ فِنْحَاصُ، وَكَانَ مِنْ
عُلَمَائِهِمْ وَأَحْبَارِهِمْ، وَمَعَهُ حَبْرٌ مِنْ أَحْبَارِهِمْ، يُقَالُ
لَهُ: أَشْيَعُ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ لِفِنْحَاصٍ: وَيْحَكَ يَا فَنُحَاصُ!
اتَّقِ الله وَأسلم، فو اللَّهِ إنَّكَ لَتَعْلَمُ أَنَّ مُحَمَّدًا لَرَسُولُ
اللَّهِ، قَدْ جَاءَكُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِهِ، تَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا
عِنْدَكُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، فَقَالَ فِنْحَاصُ
[١] الغوى: الْمُفْسد.
[٢]
كَذَا فِي أَكثر الْأُصُول. والتجار: جمع تَاجر، وَهُوَ بَائِع الْخمر، وَفِي أ:
«النجار» بالنُّون
[٣]
هَذِه الْكَلِمَة سَاقِطَة فِي أ.
[٤]
قَالَ السهيليّ: وَهَذِه لُغَة الْقُرْآن. قَالَ تَعَالَى: غَيْرَ ناظِرِينَ
إِناهُ ٣٣: ٥٣.
[٥]
كَذَا فِي أ. وَبَيت الْمِدْرَاس: هُوَ الْبَيْت الّذي يتدارس فِيهِ الْيَهُود
كِتَابهمْ. وَفِي سَائِر الْأُصُول:
«الْمدَارِس» .
لِأَبِي بَكْرٍ: وَاَللَّهِ يَا
أَبَا بَكْرٍ، مَا بِنَا إلَى اللَّهِ مِنْ فَقْرٍ، وَإِنَّهُ إلَيْنَا لَفَقِيرٌ،
وَمَا نَتَضَرَّعُ إلَيْهِ كَمَا يَتَضَرَّعُ إلَيْنَا، وَإِنَّا عَنْهُ
لَأَغْنِيَاءُ، وَمَا هُوَ عَنَّا بِغَنِيٍّ، وَلَوْ كَانَ عَنَّا غَنِيًّا مَا
اسْتَقْرَضَنَا أَمْوَالَنَا، كَمَا يَزْعُمُ صَاحِبُكُمْ، يَنْهَاكُمْ عَنْ
الرِّبَا وَيُعْطِينَاهُ وَلَوْ كَانَ عَنَّا غَنِيًّا مَا أَعْطَانَا الرِّبَا.
قَالَ: فَغَضِبَ أَبُو بَكْرٍ، فَضَرَبَ وَجْهَ فِنْحَاصَ ضَرْبًا شَدِيدًا،
وَقَالَ: وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْلَا الْعَهْدُ الَّذِي بَيْنَنَا
وَبَيْنَكُمْ، لَضَرَبْتُ رَأْسَكَ، أَيْ عَدُوَّ اللَّهِ. قَالَ: فَذَهَبَ
فِنْحَاصُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، اُنْظُرْ مَا صَنَعَ
بِي صَاحِبُكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لِأَبِي بَكْرٍ: مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا
صَنَعْتَ؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّ عَدُوَّ اللَّهِ قَالَ
قَوْلًا عَظِيمًا، إنَّهُ زَعَمَ أَنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَأَنَّهُمْ أَغْنِيَاءُ،
فَلَمَّا قَالَ ذَلِكَ غَضِبْتُ للَّه مِمَّا قَالَ، وَضَرَبْتُ وَجْهَهُ. فَجَحَدَ
ذَلِكَ فِنْحَاصُ، وَقَالَ: مَا قُلْتُ ذَلِكَ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى
فِيمَا قَالَ فِنْحَاصُ رَدًّا عَلَيْهِ، وَتَصْدِيقًا لِأَبِي بَكْرٍ: لَقَدْ
سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ
أَغْنِياءُ، سَنَكْتُبُ مَا قالُوا، وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ،
وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ ٣: ١٨١.
وَنَزَلَ فِي أَبِي بَكْرٍ
الصِّدِّيقِ رضي الله عنه، وَمَا بَلَغَهُ فِي ذَلِكَ مِنْ الْغَضَبِ:
وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ
أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمن الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيرًا.
وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ٣: ١٨٦.
ثُمَّ قَالَ فِيمَا قَالَ فِنْحَاصُ
وَالْأَحْبَارُ مَعَهُ مِنْ يَهُودَ: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ
أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ، فَنَبَذُوهُ
وَراءَ ظُهُورِهِمْ، وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا، فَبِئْسَ مَا
يَشْتَرُونَ. لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا، وَيُحِبُّونَ
أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ
الْعَذابِ، وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ ٣: ١٨٧- ١٨٨ يَعْنِي فِنْحَاصَ، وَأَشْيَعَ
وَأَشْبَاهَهُمَا مِنْ الْأَحْبَارِ، الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا يُصِيبُونَ مِنْ
الدُّنْيَا عَلَى مَا زَيَّنُوا لِلنَّاسِ مِنْ الضَّلَالَةِ، وَيُحِبُّونَ أَنْ
يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا، أَنْ يَقُولَ النَّاسُ: عُلَمَاءُ، وَلَيْسُوا
بِأَهْلِ عِلْمٍ، لَمْ يَحْمِلُوهُمْ عَلَى هُدًى وَلَا حَقٍّ، وَيُحِبُّونَ أَنْ
يَقُولَ النَّاسُ:
قَدْ فَعَلُوا.
(أَمْرُهُمُ الْمُؤْمِنِينَ
بِالْبُخْلِ):
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَكَانَ
كَرْدَمُ بْنُ قَيْسٍ، حَلِيفُ كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ، وَأُسَامَةُ بْنُ
حَبِيبٍ، وَنَافِعُ بْنُ أَبِي نَافِعٍ، وَبَحْرِيُّ بْنُ عَمْرٍو، وَحُيَيُّ بْنُ
أَخْطَبَ، وَرِفَاعَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ التَّابُوتِ، يَأْتُونَ رِجَالًا مِنْ
الْأَنْصَارِ كَانُوا يُخَالِطُونَهُمْ، يَنْتَصِحُونَ [١] لَهُمْ، مِنْ أَصْحَابِ
رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَيَقُولُونَ لَهُمْ:
لَا تُنْفِقُوا أَمْوَالَكُمْ
فَإِنَّا نَخْشَى عَلَيْكُمْ الْفَقْرَ فِي ذَهَابِهَا، وَلَا تُسَارِعُوا فِي
النَّفَقَةِ فَإِنَّكُمْ لَا تَدْرُونَ عَلَامَ يَكُونُ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ
فِيهِمْ: الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ
مَا آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ٤: ٣٧، أَيْ مِنْ التَّوْرَاةِ، الَّتِي فِيهَا
تَصْدِيقُ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ ﷺ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذابًا
مُهِينًا.
وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ
أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ، وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ
الْآخِرِ ٤: ٣٧- ٣٨ ... إلَى قَوْلِهِ: وَكانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا ٤: ٣٩.
(جَحْدُهُمُ
الْحَقَّ):
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَكَانَ
رِفَاعَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ التَّابُوتِ مِنْ عُظَمَاءِ يَهُودَ، إذَا كَلَّمَ
رَسُولَ اللَّهِ ﷺ لَوَى لِسَانَهُ، وَقَالَ: أَرْعِنَا سَمْعَكَ يَا مُحَمَّدُ،
حَتَّى نُفْهِمَكَ، ثُمَّ طَعَنَ فِي الْإِسْلَامِ وَعَابَهُ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ
فِيهِ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتابِ يَشْتَرُونَ
الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ وَالله أَعْلَمُ
بِأَعْدائِكُمْ، وَكَفى بِاللَّهِ وَلِيًّا، وَكَفى بِاللَّهِ نَصِيرًا. مِنَ
الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ، وَيَقُولُونَ سَمِعْنا
وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ، وَراعِنا ٤: ٤٤- ٤٦، (أَيْ رَاعِنَا
سَمْعَكَ) [٢] لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ، وَطَعْنًا فِي الدِّينِ، وَلَوْ أَنَّهُمْ
قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا، لَكانَ خَيْرًا لَهُمْ
وَأَقْوَمَ، وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا
قَلِيلًا ٤: ٤٦.
وَكَلَّمَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ
رُؤَسَاءَ مِنْ أَحْبَارِ يَهُودَ، مِنْهُمْ: عَبْدُ اللَّهِ
[١] وَفِي أ: «يتنصحون» .
[٢]
هَذِه الْعبارَة سَاقِطَة فِي أ.
ابْن صُورِيَّا [١] الْأَعْوَرُ،
وَكَعْبُ بْنُ أَسَدٍ، فَقَالَ لَهُمْ: يَا مَعْشَرَ يَهُودَ، اتَّقُوا الله
وَأَسْلمُوا، فو اللَّهَ إنَّكُمْ لَتَعْلَمُونَ أَنَّ الَّذِي جِئتُكُمْ بِهِ
الحقّ، قَالُوا: مَا نَعْرِفُ ذَلِكَ يَا مُحَمَّدُ: فَجَحَدُوا مَا عَرَفُوا،
وَأَصَرُّوا عَلَى الْكُفْرِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقًا لِما مَعَكُمْ
مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها، أَوْ
نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ، وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا
٤: ٤٧.
(تَفْسِيرُ
ابْنِ هِشَامٍ لِبَعْضِ الْغَرِيبِ):
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: نَطْمِسَ:
نَمْسَحَهَا فَنُسَوِّيهَا، فَلَا يُرَى فِيهَا عَيْنٌ وَلَا أَنْفٌ وَلَا فَمٌ،
وَلَا شَيْءٌ مِمَّا يُرَى فِي الْوَجْهِ، وَكَذَلِكَ فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ ٥٤:
٣٧.
الْمَطْمُوسُ الْعَيْنُ: الَّذِي
لَيْسَ بَيْنَ جَفْنَيْهِ شِقٌّ. وَيُقَالُ: طَمَسْتُ الْكِتَابَ وَالْأَثَرَ،
فَلَا يُرَى مِنْهُ شَيْءٌ. قَالَ الْأَخْطَلُ، وَاسْمُهُ الْغَوْثُ [٢] بْنُ
هُبَيْرَةَ بْنِ الصَّلْتِ التَّغْلِبِيُّ، يَصِفُ إبِلًا كَلَّفَهَا مَا ذَكَرَ:
وتَكْلِيفُناها كُلَّ طَامِسَةٍ
الصُّوَى ... شَطُونٍ تَرَى حِرْبَاءَهَا يَتَمَلْمَلُ [٣]
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ
لَهُ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَاحِدَةُ
الصُّوَى: صُوَّةٌ. وَالصُّوَى: الْأَعْلَامُ الَّتِي يُسْتَدَلُّ بِهَا عَلَى
الطُّرُقِ وَالْمِيَاهِ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: يَقُولُ:
مُسِحَتْ فَاسْتَوَتْ بِالْأَرْضِ، فَلَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ نَاتِئٌ.
(النَّفَرُ
الَّذِينَ حَزَّبُوا الْأَحْزَابَ):
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَكَانَ
الَّذِينَ حَزَّبُوا الْأَحْزَابَ مِنْ قُرَيْشٍ وَغَطَفَانَ وَبَنْي قُرَيْظَةَ:
حُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ، وَسِلَامُ
بْنُ أَبِي الْحُقَيْقِ، أَبُو رَافِعٍ [٤]، وَالرَّبِيعُ بْنُ الرَّبِيعِ بْنِ
أَبِي الْحُقَيْقِ، وَأَبُو عَمَّارٍ، وَوَحْوَحُ بْنُ عَامِرٍ، وَهَوْذَةُ بْنُ
قَيْسٍ. فَأَمَّا وَحْوَحُ،
[١] فِي بعض الْأُصُول هُنَا وَفِيمَا
سَيَأْتِي: «صورى»، وَهِي رِوَايَة فِيهِ (رَاجع الْقَامُوس وَشَرحه، مَادَّة صور)
.
[٢]
الْمَشْهُور أَن اسْم الأخطل: غياث بن غوث بن الصَّلْت.
[٣]
شطون: بعيد. والحرباء: دويبة أكبر من العظاءة، يسْتَقْبل الشَّمْس ويدور مَعهَا
أَيْنَمَا دارت ويتململ: يتقلب من شدَّة الْحر.
[٤]
فِي م، ر: «وَأَبُو رَافع» .
٣٦-
سيرة ابْن هِشَام- ١
وَأَبُو عَمَّارٍ، وَهَوْذَةُ،
فَمِنْ بَنِي وَائِلٍ، وَكَانَ سَائِرُهُمْ مِنْ بَنِي النَّضِيرِ. فَلَمَّا
قَدِمُوا عَلَى قُرَيْشٍ قَالُوا: هَؤُلَاءِ أَحْبَارُ يَهُودَ، وَأَهْلُ
الْعِلْمِ بِالْكِتَابِ الْأَوَّلِ، فَسَلُوهُمْ:
دِينُكُمْ خَيْرٌ أَمْ دِينُ
مُحَمَّدٍ؟ فَسَأَلُوهُمْ، فَقَالُوا: بَلْ دِينُكُمْ خَيْرٌ مِنْ دِينِهِ،
وَأَنْتُمْ أَهْدَى مِنْهُ وَمِمَّنْ اتَّبَعَهُ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى
فِيهِمْ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ
بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ ٤: ٥١.
(تَفْسِيرُ
ابْنِ هِشَامٍ لِبَعْضِ الْغَرِيبِ):
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: الْجِبْتُ
(عِنْدَ الْعَرَبِ): مَا عُبِدَ مِنْ دُونِ اللَّهِ تبارك وتعالى.
وَالطَّاغُوتُ: كُلُّ مَا أَضَلَّ
عَنْ الْحَقِّ. وَجَمْعُ الْجِبْتِ: جُبُوتٌ، وَجَمْعُ الطَّاغُوتِ طَوَاغِيتُ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَبَلَغَنَا
عَنْ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ أَنَّهُ قَالَ: الْجِبْتُ: السَّحَرُ وَالطَّاغُوتُ:
الشَّيْطَانُ.
وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا
هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا ٤: ٥١.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: إلَى قَوْلِهِ
تَعَالَى: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى مَا آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ،
فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ، وَآتَيْناهُمْ مُلْكًا
عَظِيمًا ٤: ٥٤.
(إِنْكَارُهُمُ
التَّنْزِيلَ):
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَالَ
سُكَيْنٌ وَعَدِيُّ بْنُ زَيْدٍ: يَا مُحَمَّدُ، مَا نَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ
أَنْزَلَ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ بَعْدَ مُوسَى. فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى
فِي ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمَا: إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى
نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ، وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ
وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ
وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ، وَآتَيْنا داوُدَ زَبُورًا. وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْناهُمْ
عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ، وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ، وَكَلَّمَ اللَّهُ
مُوسى تَكْلِيمًا. رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ
عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ، وَكانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ٤:
١٦٣- ١٦٥.
وَدَخَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ
جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ، فَقَالَ لَهُمْ: أَمَا وَاَللَّهِ
إنَّكُمْ لَتَعْلَمُونَ أَنِّي
رَسُولٌ مِنْ اللَّهِ إلَيْكُمْ، قَالُوا: مَا نَعْلَمُهُ، وَمَا نَشْهَدُ
عَلَيْهِ.
فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِي
ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمْ: لكِنِ اللَّهِ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ
أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ، وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيدًا ٤:
١٦٦.
(اجْتِمَاعُهُمْ
عَلَى طَرْحِ الصَّخْرَةِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ:
وَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إلَى
بَنِي النَّضِيرِ يَسْتَعِينُهُمْ فِي دِيَةِ الْعَامِرِيَّيْنِ اللَّذَيْنِ
قَتَلَ عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيُّ. فَلَمَّا خَلَا بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ
قَالُوا:
لَنْ تَجِدُوا مُحَمَّدًا أَقْرَبَ
مِنْهُ الْآنَ، فَمَنْ رَجُلٌ يَظْهَرُ عَلَى هَذَا الْبَيْتِ، فَيَطْرَحَ
عَلَيْهِ صَخْرَةً فَيُرِيحَنَا مِنْهُ؟ فَقَالَ عَمْرُو بْنُ جَحَّاشِ بْنِ
كَعْبٍ: أَنَا، فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ ﷺ الْخَبَرُ، فَانْصَرَفَ عَنْهُمْ. فَأَنْزَلَ
اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ، وَفِيمَا أَرَادَ هُوَ وَقَوْمُهُ: يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ
يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ، فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ، وَاتَّقُوا
اللَّهَ، وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ٥: ١١.
(ادِّعَاؤُهُمْ
أَنَّهُمْ أَحِبَّاءُ اللَّهِ):
وَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ ﷺ نُعْمَانُ
بْنُ أَضَاءَ، وَبَحْرِيُّ بْنُ عَمْرٍو، وَشَأْسُ بْنُ عَدِيٍّ، فَكَلَّمُوهُ
وَكَلَّمَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، وَدَعَاهُمْ إلَى اللَّهِ، وَحَذَّرَهُمْ
نِقْمَتَهُ، فَقَالُوا: مَا تُخَوِّفُنَا يَا مُحَمَّدُ، نَحْنُ وَاَللَّهِ
أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ، كَقَوْلِ النَّصَارَى. فَأَنْزَلَ اللَّهُ
تَعَالَى فِيهِمْ: وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ
وَأَحِبَّاؤُهُ، قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ
مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ، وَلِلَّهِ مُلْكُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ ٥: ١٨
(إنْكَارُهُمْ
نُزُولَ كِتَابٍ بَعْدَ مُوسَى عليه السلام:
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَدَعَا
رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَهُودَ إلَى الْإِسْلَامِ وَرَغَّبَهُمْ فِيهِ، وَحَذَّرَهُمْ
غَيْرَ اللَّهِ وَعُقُوبَتَهُ، فَأَبَوْا عَلَيْهِ، وَكَفَرُوا بِمَا جَاءَهُمْ
بِهِ، فَقَالَ لَهُمْ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَسَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ وَعُقْبَةُ
بْنُ وَهْبٍ: يَا مَعْشَرَ يَهُودَ، اتّقوا الله، فو اللَّهَ إنَّكُمْ
لَتَعْلَمُونَ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ، وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَذْكُرُونَهُ لَنَا
قَبْلَ
مَبْعَثِهِ، وَتَصِفُونَهُ لَنَا
بِصِفَتِهِ، فَقَالَ رَافِعُ بْنُ حُرَيْمِلَةَ، وَوَهْبُ بْنُ يَهُوذَا: مَا
قُلْنَا لَكُمْ هَذَا قَطُّ، وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ بَعْدَ مُوسَى،
وَلَا أَرْسَلَ بَشِيرًا وَلَا نَذِيرًا بَعْدَهُ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى
فِي ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمَا: يَا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا
يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جاءَنا مِنْ
بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَالله عَلى كُلِّ شَيْءٍ
قَدِيرٌ ٥: ١٩.
ثُمَّ قَصَّ عَلَيْهِمْ خَبَرَ
مُوسَى وَمَا لَقِيَ مِنْهُمْ، وَانْتِقَاضَهُمْ [١] عَلَيْهِ، وَمَا رَدُّوا
عَلَيْهِ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ حَتَّى تَاهُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعِينَ سَنَةً
عُقُوبَةً.
(رُجُوعُهُمْ
إلَى النَّبِيِّ ﷺ فِي حُكْمِ الرَّجْمِ):
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي
ابْنُ شِهَابٍ الزُّهْرِيُّ أَنَّهُ سَمِعَ رَجُلًا مِنْ مُزَيْنَةَ، مِنْ أَهْلِ
الْعِلْمِ، يُحَدِّثُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ
حَدَّثَهُمْ: أَنَّ أَحْبَارَ يَهُودَ اجْتَمَعُوا فِي بَيْتِ الْمِدْرَاسِ [٢]،
حَيْنَ قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ الْمَدِينَةَ، وَقَدْ زَنَى رَجُلٌ مِنْهُمْ
بَعْدَ إحْصَانِهِ بِامْرَأَةٍ مِنْ يَهُودَ قَدْ أَحْصَنَتْ، فَقَالُوا:
ابْعَثُوا بِهَذَا الرَّجُلِ وَهَذِهِ الْمَرْأَةِ إلَى مُحَمَّدٍ، فَسَلُوهُ
كَيْفَ الْحُكْمُ فِيهِمَا، وَوَلُّوهُ الْحُكْمَ عَلَيْهِمَا، فَإِنْ عَمِلَ
فِيهِمَا بِعَمَلِكُمْ مِنْ التَّجْبِيَةِ- وَالتَّجْبِيَةُ: الْجَلْدُ بِحَبْلٍ
مِنْ لِيفٍ مَطْلِيٍّ بِقَارٍ، ثُمَّ تُسَوَّدُ وُجُوهُهُمَا، ثُمَّ يُحْمَلَانِ
عَلَى حِمَارَيْنِ، وَتُجْعَلُ وُجُوهُهُمَا مِنْ قِبَلِ أَدْبَارِ
الْحِمَارَيْنِ- فَاتَّبِعُوهُ، فَإِنَّمَا هُوَ مَلَكٌ، وَصَدِّقُوهُ، وَإِنْ
هُوَ حَكَمَ فِيهِمَا بِالرَّجْمِ فَإِنَّهُ نَبِيٌّ، فَاحْذَرُوهُ عَلَى مَا فِي
أَيْدِيكُمْ أَنْ يَسْلُبَكُمُوهُ. فَأَتَوْهُ، فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ، هَذَا
رَجُلٌ قَدْ زَنَى بَعْدَ إحْصَانِهِ بِامْرَأَةٍ قَدْ أَحْصَنَتْ، فَاحْكُمْ
فِيهِمَا، فَقَدْ وَلَّيْنَاكَ الْحُكْمَ فِيهِمَا. فَمَشَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ
حَتَّى أَتَى أَحْبَارَهُمْ فِي بَيْتِ الْمِدْرَاسِ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ
يَهُودَ أَخْرِجُوا إلَيَّ عُلَمَاءَكُمْ، فَأُخْرِجَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ، ابْن
صُورِيَّا.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَدْ
حَدَّثَنِي بَعْضُ بَنِي قُرَيْظَةَ: أَنَّهُمْ قَدْ أَخَرَجُوا إلَيْهِ
يَوْمئِذٍ، مَعَ ابْنِ صُورِيَّا، أَبَا يَاسِرِ بْنِ أَخْطَبَ، وَوَهْبَ بْنَ
يَهُوذَا، فَقَالُوا: هَؤُلَاءِ عُلَمَاؤُنَا.
[١] انتقاضهم: افتراقهم.
[٢]
فِي م، ر: «الْمدَارِس» .
فَسَأَلَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ،
حَتَّى [١] حَصَّلَ أَمْرَهُمْ، إلَى أَنْ قَالُوا لِعَبْدِ اللَّهِ ابْن
صُورِيَّا: هَذَا [٢] أَعْلَمُ مَنْ بَقِيَ بِالتَّوْرَاةِ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: مِنْ قَوْلِهِ:
«وَحَدَّثَنِي بَعْضُ بَنِي قُرَيْظَةَ- إلَى «أَعْلَمُ مَنْ بَقِيَ
بِالتَّوْرَاةِ» مِنْ قَوْلِ ابْنِ إسْحَاقَ، وَمَا بَعْدَهُ مِنْ الْحَدِيثِ
الَّذِي قَبْلَهُ.
فَخَلَا بِهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ،
وَكَانَ غُلَامًا شَابًّا مِنْ أَحْدَثِهِمْ سِنًّا، فَأَلَظَّ بِهِ [٣] رَسُولُ
اللَّهِ ﷺ الْمَسْأَلَةَ، يَقُولُ لَهُ: يَا بن صُورِيَّا، أَنْشُدُكَ اللَّهَ
وَأُذَكِّرُكَ بِأَيَّامِهِ عِنْدَ بَنِي إسْرَائِيلَ، هَلْ تَعْلَمُ أَنَّ
اللَّهَ حَكَمَ فِيمَنْ زَنَى بَعْدَ إحْصَانِهِ بِالرَّجْمِ فِي التَّوْرَاةِ؟
قَالَ: اللَّهمّ نَعَمْ، أَمَا وَاَللَّهِ يَا أَبَا الْقَاسِمِ إنَّهُمْ
لَيَعْرِفُونَ أَنَّكَ لَنَبِيٌّ مُرْسَلٌ وَلَكِنَّهُمْ يَحْسُدُونَكَ. قَالَ:
فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، فَأَمَرَ بِهِمَا فَرُجِمَا عِنْدَ بَابِ مَسْجِدِهِ
فِي بَنِي غَنْمِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النَّجَّارِ.
ثُمَّ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ ابْنُ
صُورِيَّا، وَجَحَدَ نُبُوَّةَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَأَنْزَلَ
اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ
يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ
تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمن الَّذِينَ هادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ
لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ ٥: ٤١ أَيْ الَّذِينَ بَعَثُوا مِنْهُمْ مَنْ
بَعَثُوا وَتَخَلَّفُوا، وَأَمَرُوهُمْ بِمَا أَمَرُوهُمْ بِهِ مِنْ تَحْرِيفِ
الْحُكْمِ عَنْ مَوَاضِعِهِ. ثُمَّ قَالَ: يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ
مَواضِعِهِ، يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ، وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ
٥: ٤١، أَيْ الرَّجْمَ فَاحْذَرُوا ٥: ٤١ إلَى آخِرِ الْقِصَّةِ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي
مُحَمَّدُ بْنُ طَلْحَةَ بْنِ يَزِيدَ بْنِ رُكَانَةَ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ
إبْرَاهِيمَ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ
بِرَجْمِهِمَا، فَرُجِمَا بِبَابِ مَسْجِدِهِ، فَلَمَّا وَجَدَ الْيَهُودِيُّ مَسَّ
الْحِجَارَةِ قَامَ إلَى صَاحِبَتِهِ فَجَنَأَ عَلَيْهَا [٤]، يَقِيهَا مَسَّ
الْحِجَارَةِ، حَتَّى قُتِلَا جَمِيعًا.
[١] كَذَا فِي ط. وَفِي سَائِر الْأُصُول
«ثمَّ» .
[٢]
فِي م، ر: «هَذَا من أعلم من ... إِلَخ» .
[٣]
ألظ بِهِ: ألح عَلَيْهِ.
[٤]
جنأ عَلَيْهَا: أَي انحنى عَلَيْهَا.
قَالَ: وَكَانَ ذَلِكَ مِمَّا صَنَعَ
اللَّهُ لِرَسُولِهِ ﷺ فِي تَحْقِيقِ الزِّنَا مِنْهُمَا.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي
صَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ، عَنْ نَافِعٍ مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: لَمَّا حَكَّمُوا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فِيهِمَا،
دَعَاهُمْ بِالتَّوْرَاةِ، وَجَلَسَ حَبْرٌ مِنْهُمْ يَتْلُوهَا، وَقَدْ وَضَعَ
يَدَهُ عَلَى آيَةِ الرَّجْمِ، قَالَ: فَضَرَبَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ يَدَ
الْحَبْرِ، ثُمَّ قَالَ: هَذِهِ يَا نَبِيَّ اللَّهِ آيَةُ الرَّجْمِ، يَأْبَى
أَنْ يَتْلُوَهَا عَلَيْكَ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: وَيْحَكُمْ يَا
مَعْشَرَ يَهُودَ! مَا دَعَاكُمْ إلَى تَرْكِ حُكْمِ اللَّهِ وَهُوَ
بِأَيْدِيكُمْ؟ قَالَ: فَقَالُوا: أَمَا وَاَللَّهِ إنَّهُ قَدْ كَانَ فِينَا
يُعْمَلُ بِهِ، حَتَّى زَنَى رَجُلٌ مِنَّا بَعْدَ إحْصَانِهِ، مِنْ بُيُوتِ
الْمُلُوكِ وَأَهْلِ الشَّرَفِ، فَمَنَعَهُ الْمُلْكُ مِنْ الرَّجْمِ، ثُمَّ زَنَى
رَجُلٌ بَعْدَهُ، فَأَرَادَ أَنْ يَرْجُمَهُ، فَقَالُوا: لَا وَاَللَّهِ، حَتَّى
تَرْجُمَ فُلَانًا، فَلَمَّا قَالُوا لَهُ ذَلِكَ اجْتَمَعُوا فَأَصْلَحُوا
أَمْرَهُمْ عَلَى التَّجْبِيَةِ، وَأَمَاتُوا ذِكْرَ الرَّجْمِ وَالْعَمَلَ بِهِ.
قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: فَأَنَا أَوَّلُ مَنْ أَحْيَا أَمْرَ اللَّهِ
وَكِتَابَهُ وَعَمِلَ بِهِ، ثُمَّ أَمَرَ بِهِمَا فَرُجِمَا عِنْدَ بَابِ
مَسْجِدِهِ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: فَكُنْتُ فِيمَنْ رَجَمَهُمَا.
(ظُلْمُهُمْ
فِي الدِّيَةِ):
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي
داوُدَ بْنُ الْحُصَيْنِ عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ:
أَنَّ الْآيَاتِ مِنْ الْمَائِدَةِ
الَّتِي قَالَ اللَّهُ فِيهَا: فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ
وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا. وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ
بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ٥: ٤٢ إنَّمَا
أُنْزِلَتْ فِي الدِّيَةِ بَيْنَ بَنِي النَّضِيرِ وَبَيْنَ بَنِي قُرَيْظَةَ،
وَذَلِكَ أَنَّ قَتْلَى بَنِي النَّضِيرِ، وَكَانَ لَهُمْ شَرَفٌ، يُؤَدُّونَ
الدِّيَةَ كَامِلَةً، وَأَنَّ بَنِي قُرَيْظَةَ (كَانُوا) [١] يُؤَدُّونَ نِصْفَ
الدِّيَةِ، فَتَحَاكَمُوا فِي ذَلِكَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ
ذَلِكَ فِيهِمْ، فَحَمَلَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَلَى الْحَقِّ فِي ذَلِكَ،
فَجَعَلَ الدِّيَةَ سَوَاءً.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فاللَّه
أَعْلَمُ أَيُّ ذَلِكَ كَانَ.
[١] زِيَادَة عَن أ، ط.
(قَصْدُهُمُ الْفِتْنَةَ بِرَسُولِ
اللَّهِ ﷺ:
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَالَ
كَعْبُ بْنُ أَسَدٍ، وَابْنُ صَلُوبَا، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ صُورِيَّا، وَشَأْسُ
بْنُ قَيْسٍ، بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: اذْهَبُوا بِنَا إلَى مُحَمَّدٍ، لَعَلَّنَا
نَفْتِنَهُ عَنْ دِينِهِ، فَإِنَّمَا هُوَ بَشَرٌ، فَأَتَوْهُ، فَقَالُوا لَهُ:
يَا مُحَمَّدُ، إنَّكَ قَدْ عَرَفْتَ أَنَّا أَحْبَارُ يَهُودَ وَأَشْرَافُهُمْ
وَسَادَتُهُمْ، وَأَنَّا إنْ اتَّبَعْنَاكَ اتَّبَعَتْكَ يَهُودُ، وَلَمْ
يُخَالِفُونَا، وَأَنَّ بَيْنَنَا وَبَيْنَ بَعْضِ قَوْمِنَا خُصُومَةٌ،
أَفَنُحَاكِمُهُمْ إلَيْكَ فَتَقْضِيَ لَنَا عَلَيْهِمْ، وَنُؤْمِنُ بِكَ
وَنُصَدِّقُكَ، فَأَبَى ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَلَيْهِمْ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ
فِيهِمْ: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ، وَلا تَتَّبِعْ
أَهْواءَهُمْ، وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ
إِلَيْكَ، فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ
بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ، وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ.
أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ
يَبْغُونَ، وَمن أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ٥: ٤٩- ٥٠
(جُحُودُهُمْ
نُبُوَّةِ عِيسَى عليه السلام:
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَأَتَى
رَسُولَ اللَّهِ ﷺ نَفَرٌ مِنْهُمْ: أَبُو يَاسِرِ بْنُ أَخْطَبَ، وَنَافِعُ بْنُ
أَبِي نَافِعٍ، وَعَازِرُ بْنُ أَبِي عَازِرٍ، وَخَالِدٌ، وَزَيْدٌ، وَإِزَارُ
بْنُ أَبِي إزَارٍ، وَأَشْيَعُ، فَسَأَلُوهُ عَمَّنْ يُؤْمِنُ بِهِ مِنْ
الرُّسُلِ، فَقَالَ رَسُول الله ﷺ: نؤمن باللَّه وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا، وَما
أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ،
وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى، وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ، لَا
نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ، وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ٢: ١٣٦. فَلَمَّا
ذَكَرَ عِيسَى بن مَرْيَمَ جَحَدُوا نُبُوَّتَهُ، وَقَالُوا: لَا نُؤْمِنُ
بِعِيسَى بن مَرْيَمَ وَلَا بِمَنْ آمَنَ بِهِ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى
فِيهِمْ: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا
بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ، وَأَنَّ
أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ ٥: ٥٩
(ادِّعَاؤُهُمْ
أَنَّهُمْ عَلَى الْحَقِّ):
وَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ ﷺ رَافِعُ
بْنُ حَارِثَةَ، وَسَلَامُ [١] بْنُ مِشْكَمٍ،
[١] يرْوى «سَلام» بتَشْديد اللَّام كَمَا
يرْوى بتخفيفها. وَمن يرويهِ بِالتَّخْفِيفِ يستشهد بقول الشَّاعِر:
سقاني فأروانى كميتا مدامة ... على
عجل منى سَلام بن مشْكم
وَمَالِكُ بْنُ الصَّيْفِ [١]،
وَرَافِعُ بْنُ حُرَيْمِلَةَ، فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ، أَلَسْتَ تَزْعُمُ
أَنَّكَ عَلَى مِلَّةِ إبْرَاهِيمَ وَدِينِهِ، وَتُؤْمِنُ بِمَا عِنْدَنَا مِنْ
التَّوْرَاةِ، وَتَشْهَدُ أَنَّهَا مِنْ اللَّهِ حَقٌّ؟
قَالَ: بَلَى، وَلَكِنَّكُمْ
أَحْدَثْتُمْ وَجَحَدْتُمْ مَا فِيهَا مِمَّا أَخَذَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ مِنْ
الْمِيثَاقِ فِيهَا، وَكَتَمْتُمْ مِنْهَا مَا أُمِرْتُمْ أَنْ تُبَيِّنُوهُ
لِلنَّاسِ، فَبَرِئْتُ مِنْ إحْدَاثِكُمْ، قَالُوا: فَإِنَّا نَأْخُذُ بِمَا فِي
أَيْدِينَا، فَإِنَّا عَلَى الْهُدَى وَالْحَقِّ، وَلَا نُؤْمِنُ بِكَ، وَلَا
نَتَّبِعُكَ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ
لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ، وَما أُنْزِلَ
إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ، وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ
إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيانًا وَكُفْرًا، فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ
الْكافِرِينَ ٥: ٦٨
(إِشْرَاكُهُمْ
باللَّه):
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَأَتَى
رَسُولَ اللَّهِ ﷺ النَّحَّامُ بْنُ زَيْدٍ، وَقَرْدَمُ ابْن كَعْبٍ، وَبَحْرِيُّ
بْنُ عَمْرٍو، فَقَالُوا لَهُ: يَا مُحَمَّدُ، أَمَا تَعْلَمُ مَعَ اللَّهِ إلَهًا
غَيْرَهُ؟
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: اللَّهُ
لَا إلَهَ إلَّا هُوَ، بِذَلِكَ بُعِثْتُ، وَإِلَى ذَلِكَ أَدْعُو. فَأَنْزَلَ
اللَّهُ فِيهِمْ وَفِي قَوْلِهِمْ: قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً، قُلِ
اللَّهِ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ، وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ
لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمن بَلَغَ، أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ
آلِهَةً أُخْرى، قُلْ لَا أَشْهَدُ، قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ، وَإِنَّنِي
بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ، الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما
يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ
٦: ١٩- ٢٠.
(نَهْيُهُ
تَعَالَى لِلْمُؤْمِنِينَ عَنْ مُوَادَّتِهِمْ):
وَكَانَ رِفَاعَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ
التَّابُوتِ، وَسُوَيْدُ بْنُ الْحَارِثِ قَدْ أَظْهَرَا الْإِسْلَامَ وَنَافَقَا
فَكَانَ رِجَالٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يُوَادُّونَهُمَا. فَأَنْزَلَ اللَّهُ
تَعَالَى فِيهِمَا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ
اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ
قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ، وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ
مُؤْمِنِينَ ٥: ٥٧ ... إلَى قَوْله:
[١] فِي أ: «الضَّيْف، بالضاد الْمُعْجَمَة،
وهما رِوَايَتَانِ فِيهِ.
وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا،
وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ، وَالله أَعْلَمُ بِما
كانُوا يَكْتُمُونَ ٥: ٦١.
(سُؤَالُهُمْ
عَنْ قِيَامِ السَّاعَةِ):
وَقَالَ جَبَلُ بْنُ أَبِي قُشَيْرٍ،
وَشَمْويِلُ بْنُ زَيْدٍ، لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ:
يَا مُحَمَّدُ، أَخْبِرْنَا، مَتَى
تَقُومُ السَّاعَةُ إنْ كُنْتَ نَبِيًّا كَمَا تَقُولُ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ
تَعَالَى فيهمَا:
يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ
أَيَّانَ مُرْساها، قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي، لَا يُجَلِّيها
لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ، ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ
إِلَّا بَغْتَةً، يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها، قُلْ إِنَّما عِلْمُها
عِنْدَ اللَّهِ، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ٧: ١٨٧.
(تَفْسِيرُ
ابْنِ هِشَامٍ لِبَعْضِ الْغَرِيبِ):
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: أَيَّانَ
مُرْسَاهَا: مَتَى مُرْسَاهَا. قَالَ قَيْسُ بْنُ الْحُدَادِيَّةِ [١]
الْخُزَاعِيُّ:
فَجِئْتُ وَمُخْفَى السِّرِّ بَيْنِي
وَبَيْنَهَا ... لِأَسْأَلَهَا أَيَّانَ [٢] مَنْ سَارَ رَاجِعُ؟
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ
لَهُ. وَمُرْسَاهَا: مُنْتَهَاهَا، وَجَمْعُهُ: مَرَاسٍ. قَالَ الْكُمَيْتُ ابْن
زَيْدٍ الْأَسْدِيُّ:
وَالْمُصِيبِينَ بَابَ مَا أَخطَأ
النّاس ... وَمُرْسَى قَوَاعِدِ الْإِسْلَامِ
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ
لَهُ. وَمُرْسَى السَّفِينَةِ: حَيْثُ تَنْتَهِي. وَحَفِيٌّ عَنْهَا (عَلَى
التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ) . يَقُولُ: يَسْأَلُونَكَ عَنْهَا كَأَنَّكَ حَفِيٌّ
بِهِمْ فَتُخْبِرَهُمْ بِمَا لَا تُخْبِرُ بِهِ [٣] غَيْرَهُمْ. وَالْحَفِيُّ:
الْبَرُّ الْمُتَعَهِّدُ. وَفِي كِتَابِ اللَّهِ: إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا ١٩:
٤٧.
وَجَمْعُهُ: أَحْفِيَاءُ. وَقَالَ
أُعْشَى بَنِي قَيْسِ بْنِ ثَعْلَبَةَ:
فَإِنْ تَسْأَلِي عَنِّي فَيَا رُبَّ
سَائِلٍ ... حَفِيٌّ عَنْ الْأَعْشَى بِهِ حَيْثُ أَصْعَدَا [٤]
[١] فِي ر: «الْحداد» .
[٢]
فِي م، ر: «أَيْن» .
[٣]
فِي م، ر: «لَا تخبرهم غَيرهم» .
[٤]
أصعد فِي الْبِلَاد: سَار فِيهَا وَمضى وَذهب.
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ
لَهُ. وَالْحَفِيُّ (أَيْضًا): الْمُسْتَحْفِي عَنْ عِلْمِ الشَّيْءِ،
الْمُبَالِغِ فِي طَلَبِهِ.
(ادِّعَاؤُهُمْ
أَنَّ عُزَيْرًا ابْنُ اللَّهِ):
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَأَتَى
رَسُولَ اللَّهِ ﷺ سَلَامُ بْنُ مِشْكَمٍ، وَنُعْمَانُ ابْن أَوْفَى أَبُو أَنَسٍ،
وَمَحْمُودُ بْنُ دِحْيَةَ، وَشَأْسُ بْنُ قَيْسٍ، وَمَالِكُ بْنُ الصَّيْفِ [١]،
فَقَالُوا لَهُ: كَيْفَ نَتَّبِعُكَ وَقَدْ تَرَكْتَ قِبْلَتَنَا، وَأَنْتَ لَا
تَزْعُمُ أَنَّ عُزَيْرًا ابْنُ اللَّهِ؟
فَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل فِي
ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمْ: وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ، وَقالَتِ
النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ
قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ، قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ٩:
٣٠ إلَى آخِرِ الْقِصَّةِ.
(تَفْسِيرُ
ابْنِ هِشَامٍ لِبَعْضِ الْغَرِيبِ):
قَالَ ابْن هِشَام: يضاهون: أَيْ
يُشَاكِلُ قَوْلُهُمْ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا، نَحْوَ أَنْ تُحَدِّثَ
بِحَدِيثٍ، فَيُحَدِّثَ آخَرُ بِمِثْلِهِ، فَهُوَ يُضَاهِيكَ.
(طَلَبُهُمْ
كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ):
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَأَتَى
رَسُولَ اللَّهِ ﷺ مَحْمُودُ بْنُ سَيْحَانَ، وَنُعْمَانُ بْنُ أَضَاءَ،
وَبَحْرِيُّ بْنُ عَمْرٍو، وَعُزَيْرُ بْنُ أَبِي عُزَيْرٍ، وَسَلَّامُ بْنُ
مِشْكَمٍ، فَقَالُوا: أَحَقٌّ يَا مُحَمَّدُ أَنَّ هَذَا الَّذِي جِئْتَ بِهِ
لَحَقٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَإِنَّا لَا نَرَاهُ مُتَّسِقًا كَمَا تَتَّسِقُ
التَّوْرَاةُ؟ فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: أَمَا وَاَللَّهِ إنَّكُمْ
لَتَعْرِفُونَ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. تَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَكُمْ
فِي التَّوْرَاةِ، وَلَوْ اجْتَمَعَتْ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا
بِمِثْلِهِ مَا جَاءُوا بِهِ، فَقَالُوا عِنْدَ ذَلِكَ، وَهُمْ جَمِيعٌ:
فَتَحَاصَّ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ
صُورِيَّا، وَابْنُ صَلُوبَا، وَكِنَانَةُ بْنُ الرَّبِيعِ بْنِ أَبِي
الْحُقَيْقِ، وَأَشْيَعُ، وَكَعْبُ بْنُ أَسَدٍ، وَشَمْويِلُ بْنُ زَيْدٍ،
وَجَبَلُ بْنُ عَمْرِو بْنِ سُكَيْنَةَ:
يَا مُحَمَّدُ، أَمَا يُعَلِّمُكَ
هَذَا إنْسٌ وَلَا جِنٌّ؟ قَالَ: فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: أَمَا
وَاَللَّهِ إنَّكُمْ لَتَعْلَمُونَ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَإِنِّي
لَرَسُولُ اللَّهِ: تَجِدُونَ ذَلِكَ مَكْتُوبًا عِنْدَكُمْ فِي التَّوْرَاةِ، فَقَالُوا:
يَا مُحَمَّدُ، فَإِنَّ اللَّهَ يَصْنَعُ لِرَسُولِهِ إذَا بَعَثَهُ مَا يَشَاءُ
[١] فِي أ: «الضَّيْف» بالضاد الْمُعْجَمَة،
وهما رِوَايَتَانِ فِيهِ.
وَيَقْدِرُ مِنْهُ عَلَى مَا
أَرَادَ، فَأَنْزِلْ عَلَيْنَا كِتَابًا مِنْ السَّمَاءِ نَقْرَؤُهُ وَنَعْرِفُهُ،
وَإِلَّا جِئْنَاكَ بِمِثْلِ مَا تَأْتِي بِهِ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى
فِيهِمْ وَفِيمَا قَالُوا: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى
أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ
بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ١٧: ٨٨.
(تَفْسِيرُ
ابْنِ هِشَامٍ لِبَعْضِ الْغَرِيبِ):
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: الظَّهِيرُ:
الْعَوْنُ. وَمِنْهُ قَوْلُ الْعَرَبِ: تَظَاهَرُوا عَلَيْهِ، أَيْ تَعَاوَنُوا
عَلَيْهِ. قَالَ الشَّاعِرُ:
يَا سَمِيَّ النَّبِيِّ أَصْبَحْتَ
لِلدِّينِ ... قَوَّامًا وَلِلْإِمَامِ ظَهِيرَا
أَيْ عَوْنًا، وَجَمْعُهُ: ظُهَرَاءُ.
(سُؤَالُهُمْ
لَهُ ﷺ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ):
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَالَ
حُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ، وَكَعْبُ بْنُ أَسَدٍ، وَأَبُو رَافِعٍ، وَأَشْيَعُ،
وَشَمْويِلُ بْنُ زَيْدٍ، لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ حِينَ أَسْلَمَ: مَا
تَكُونُ النُّبُوَّةُ فِي الْعَرَبِ وَلَكِنَّ صَاحِبَكَ مَلَكٌ. ثُمَّ جَاءُوا
رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَسَأَلُوهُ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ فَقَصَّ عَلَيْهِمْ مَا
جَاءَهُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى فِيهِ، مِمَّا كَانَ قَصَّ عَلَى قُرَيْشٍ، وَهُمْ
كَانُوا مِمَّنْ أَمَرَ قُرَيْشًا أَنْ يَسْأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَنْهُ،
حَيْنَ بَعَثُوا إلَيْهِمْ النَّضْرَ بن الْحَارِث، وَعقبَة بْنَ أَبِي مُعَيْطٍ.
(تَهَجُّمُهُمْ
عَلَى ذَاتِ اللَّهِ، وَغَضَبُ الرَّسُولِ ﷺ لِذَلِكَ):
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ [١]:
وَحُدِّثْتُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُ قَالَ: أَتَى رَهْطٌ مِنْ يَهُودَ
إلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ، هَذَا اللَّهُ خَلَقَ
الْخَلْقَ، فَمَنْ خَلَقَ اللَّهَ؟ قَالَ: فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ حَتَّى اُنْتُقِعَ
[٢] لَوْنُهُ، ثُمَّ سَاوَرَهُمْ [٣] غَضَبًا لِرَبِّهِ. قَالَ: فَجَاءَهُ
جِبْرِيلُ عليه السلام فَسَكَّنَهُ، فَقَالَ: خَفِّضْ عَلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ،
وَجَاءَهُ مِنْ اللَّهِ بِجَوَابِ مَا سَأَلُوهُ عَنْهُ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ
١١٢: ١
[١] فِي أ: «قَالَ ابْن هِشَام»
.
[٢]
انتقع لَونه: تغير.
[٣]
ساورهم: واثبهم وباطشهم.
اللَّهُ الصَّمَدُ. لَمْ يَلِدْ
وَلَمْ يُولَدْ. وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ ١١٢: ٢- ٤.
قَالَ: فَلَمَّا تَلَاهَا
عَلَيْهِمْ، قَالُوا: فَصِفْ لَنَا يَا مُحَمَّدُ كَيْفَ خَلْقُهُ؟ كَيْفَ
ذِرَاعُهُ؟ كَيْفَ عَضُدُهُ؟ فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَشَدَّ مِنْ غَضَبِهِ
الْأَوَّلِ، وَسَاوَرَهُمْ. فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ عليه السلام، فَقَالَ لَهُ مِثْلَ
مَا قَالَ لَهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ، وَجَاءَهُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى بِجَوَابِ مَا
سَأَلُوهُ. يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ
وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ، وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ
بِيَمِينِهِ، سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ ٣٩: ٦٧.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي
عُتْبَةُ بْنُ مُسْلِمٍ، مَوْلَى بَنِي تَيْمٍ [١]، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ ابْن
عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ
يَقُولُ «يُوشِكُ النَّاسُ أَنْ يَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ حَتَّى يَقُولَ
قَائِلُهُمْ: هَذَا اللَّهُ خَلَقَ الْخَلْقَ، فَمَنْ خَلَقَ اللَّهَ؟ فَإِذَا
قَالُوا ذَلِكَ فَقُولُوا: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ. اللَّهُ الصَّمَدُ. لَمْ
يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ. وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ ١١٢: ١- ٤. ثُمَّ
لِيَتْفُلْ الرَّجُلُ عَنْ يَسَارِهِ ثَلَاثًا، وَلِيَسْتَعِذْ باللَّه مِنْ
الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ»
(تَفْسِيرُ
ابْنِ هِشَامٍ لِبَعْضِ الْغَرِيبِ):
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: الصَّمَدُ:
الَّذِي يُصْمَدُ إلَيْهِ، وَيُفْزَعُ إلَيْهِ، قَالَتْ هِنْدُ بِنْتُ مَعْبَدِ
بْنِ نَضْلَةَ تَبْكِي عَمْرَو بْنَ مَسْعُودٍ، وَخَالِدَ بْنَ نَضْلَةَ،
عَمَّيْهَا الْأَسَدِيَّيْنِ، وَهُمَا اللَّذَانِ قَتَلَ النُّعْمَانُ بْنُ الْمُنْذِرِ
اللَّخْمِيُّ، وَبَنَى الْغَرِيَّيْنِ [٢] اللَّذَيْنِ بِالْكُوفَةِ عَلَيْهِمَا:
أَلَا بَكَرَ النَّاعِي بِخَيْرَيْ
بَنِي أَسَدْ ... بِعَمْرِو بْنِ مَسْعُودٍ وَبِالسَّيِّدِ الصَّمَدْ [٣]
[١] كَذَا فِي أ. وَفِي سَائِر الْأُصُول:
«تَمِيم» .
[٢]
الغريان: بناءان طويلان: يُقَال هما قبر مَالك وَعقيل نديمى جذيمة الأبرش، وسميا
الغريين، لِأَن النُّعْمَان بن الْمُنْذر كَانَ يغريهما بِدَم من يقْتله فِي يَوْم
بؤسه. (عَن لِسَان الْعَرَب) .
[٣]
الناعي: الّذي يأتى بِخَبَر الْمَيِّت.