(تَارِيخُهَا):
حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ
الْمَلِكِ بْنُ هِشَامٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا زِيَادُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
الْبَكَّائِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إسْحَاقَ الْمُطَّلِبِيِّ، قَالَ: ثُمَّ
كَانَتْ غَزْوَةُ الْخَنْدَقِ فِي شَوَّالٍ سَنَةَ خَمْسٍ [٢]
.
(تَحْرِيضُ
الْيَهُودِ لِقُرَيْشِ وَمَا نَزَلَ فِيهِمْ):
فَحَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ رُومَانَ
مَوْلَى آلِ الزُّبَيْرِ بْنِ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَمَنْ لَا أَتَّهِمُ،
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، وَمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ
الْقُرَظِيِّ، وَالزُّهْرِيِّ، وَعَاصِمِ ابْن عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، وَعَبْدِ
اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، وَغَيْرِهِمْ مِنْ عُلَمَائِنَا، كُلُّهُمْ قَدْ
اجْتَمَعَ حَدِيثُهُ فِي الْحَدِيثِ عَنْ الْخَنْدَقِ، وَبَعْضُهُمْ يُحَدِّثُ مَا
لَا يُحَدِّثُ بِهِ [٣] بَعْضٌ، قَالُوا:
إنَّهُ كَانَ مِنْ حَدِيثِ
الْخَنْدَقِ أَنَّ نَفَرًا مِنْ الْيَهُودِ، مِنْهُمْ: سَلَّامُ بْنُ أَبِي
الْحَقِيقِ النَّضْرِيُّ [٤]، وَحُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ النَّضْرِيُّ، وَكِنَانَةُ
[٥] بْنُ أَبِي الْحَقِيقِ النَّضْرِيُّ، وَهَوْذَةُ بْنُ قَيْسٍ الْوَائِلِيُّ،
وَأَبُو عَمَّارٍ الْوَائِلِيُّ، فِي نَفَرٍ مِنْ بَنِي النَّضِيرِ، وَنَفَرٍ مِنْ
بَنِي وَائِلٍ، وَهُمْ الَّذِينَ حَزَّبُوا الْأَحْزَابَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ،
خَرَجُوا حَتَّى قَدِمُوا عَلَى قُرَيْشٍ مَكَّةَ، فَدَعَوْهُمْ إلَى حَرْبِ
رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَقَالُوا: إنَّا سَنَكُونُ مَعَكُمْ عَلَيْهِ، حَتَّى
نَسْتَأْصِلَهُ، فَقَالَتْ لَهُمْ قُرَيْشٌ:
يَا مَعْشَرَ يَهُودَ، إنَّكُمْ
أَهْلُ الْكِتَابِ الْأَوَّلِ وَالْعِلْمِ بِمَا أَصْبَحْنَا نَخْتَلِفُ فِيهِ
نَحْنُ وَمُحَمَّدٌ، أَفَدِينُنَا خَيْرٌ أَمْ دِينُهُ؟ قَالُوا: بَلْ دِينُكُمْ
خَيْرٌ مِنْ دِينِهِ، وَأَنْتُمْ أَوْلَى بِالْحَقِّ
[١] بِهَذِهِ الْغَزْوَة يبتدى الْجُزْء
الرَّابِع عشر من أَجزَاء السِّيرَة.
[٢]
قَالَ الزرقانى: «وَاخْتلف فِي تاريخها.، فَقَالَ مُوسَى بن عقبَة فِي مغازيه
الَّتِي شهد مَالك والشافعيّ بِأَنَّهَا أصح الْمَغَازِي، كَانَت سنة أَربع. قَالَ
الْحَافِظ: وَتَابعه على ذَلِك الإِمَام مَالك» .
[٣]
هَذِه الْكَلِمَة سَاقِطَة فِي أ.
[٤]
قَالَ السهيليّ: «وَنسب طَائِفَة من بنى النَّضِير، فَقَالَ فيهم: النضري،
وَهَكَذَا تقيد فِي النُّسْخَة العتيقة، وَقِيَاسه: النضيري، إِلَّا أَن يكون من
بَاب قَوْلهم: ثقفي وقرشي، وَهُوَ خَارج عَن الْقيَاس» .
[٥]
كَذَا فِي أ. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «وكنانة بن الرّبيع بن أَبى الْحقيق النضري»
.
(مِنْهُ) [١] . فَهُمْ الَّذِينَ أَنْزَلَ
اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ: «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ
الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ [٢]، وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ
كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا. أُولئِكَ الَّذِينَ
لَعَنَهُمُ اللَّهُ، وَمن يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا» ٤: ٥١-
٥٢ ... إلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: «أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى مَا آتاهُمُ
اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ» ٤: ٥٤: أَيْ النُّبُوَّةَ [٣]، «فَقَدْ آتَيْنا آلَ
إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا. فَمِنْهُمْ
مَنْ آمَنَ بِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ، وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا» ٤:
٥٤- ٥٥.
(تَحْرِيضُ
الْيَهُودِ لِغَطَفَانَ):
قَالَ [٣]: فَلَمَّا قَالُوا ذَلِكَ
لِقُرَيْشٍ، سَرَّهُمْ وَنَشَطُوا لِمَا دَعَوْهُمْ إلَيْهِ، مِنْ حَرْبِ رَسُولِ
اللَّهِ ﷺ، فَاجْتَمَعُوا لِذَلِكَ وَاتَّعَدُوا لَهُ. ثُمَّ خَرَجَ أُولَئِكَ
النَّفَرُ مِنْ يَهُودَ، حَتَّى جَاءُوا غَطَفَانَ، مِنْ قَيْسِ عَيْلَانَ،
فَدَعَوْهُمْ إلَى حَرْبِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَأَخْبَرُوهُمْ أَنَّهُمْ
سَيَكُونُونَ مَعَهُمْ عَلَيْهِ، وَأَنَّ قُرَيْشًا قَدْ تَابَعُوهُمْ عَلَى
ذَلِكَ، فَاجْتَمَعُوا مَعَهُمْ فِيهِ.
(خُرُوجُ
الْأَحْزَابِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ):
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَخَرَجَتْ
قُرَيْشٌ، وَقَائِدُهَا أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ، وَخَرَجَتْ غَطَفَانُ،
وَقَائِدُهَا عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنِ بْنِ حُذَيْفَةَ بْنِ بَدْرٍ [٤]، فِي بَنِي
فَزَارَةَ، وَالْحَارِثُ ابْن عَوْفِ بْنِ أَبِي حَارِثَةَ الْمُرِّيُّ، فِي بَنِي
مُرَّةَ، وَمِسْعَرُ بْنُ رُخَيْلَةَ بْنِ نُوَيْرَةَ بْنِ طَرِيفِ بْنِ سُحْمَةَ
بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ هِلَالِ بْنِ خَلَاوَةَ بْنِ أَشْجَعَ بْنِ رَيْثِ بْنِ
غَطَفَانَ، فِيمَنْ تَابَعَهُ مِنْ قَوْمِهِ من أَشْجَع.
[١] زِيَادَة عَن أ.
[٢]
الجبت والطاغوت: كل مَا يعبد من دون الله.
[٣]
هَذِه الْكَلِمَة سَاقِطَة فِي أ.
[٤]
كَانَ اسْم عُيَيْنَة بن حصن: حُذَيْفَة، وسمى عُيَيْنَة، لشتر كَانَ بِعَيْنِه.
أسلم ثمَّ ارْتَدَّ وآمن بطليحة حِين تنبأ وَأخذ أَسِيرًا، فَأتى بِهِ أَبُو بكر
رضى الله عَنهُ فَمن عَلَيْهِ، وَلم يزل مظْهرا الْإِسْلَام على جفوته وعنجهيته
ولوثة أعرابيته حَتَّى مَاتَ. وَهُوَ الّذي قَالَ فِيهِ ﷺ: الأحمق المطاع،
لِأَنَّهُ كَانَ يتبعهُ عشرَة آلَاف قناة. (رَاجع الرَّوْض وَشرح الْمَوَاهِب)
.
(جفر الْخَنْدَقِ وَتَخَاذُلُ
الْمُنَافِقِينَ وَجِدُّ الْمُؤْمِنِينَ):
فَلَمَّا سَمِعَ بِهِمْ رَسُولُ
اللَّهِ ﷺ، وَمَا أَجْمَعُوا لَهُ مِنْ الْأَمْرِ، ضَرَبَ الْخَنْدَقَ عَلَى
الْمَدِينَةِ، فَعَمِلَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ تَرْغِيبًا لِلْمُسْلِمِينَ فِي
الْأَجْرِ، وَعَمِلَ مَعَهُ الْمُسْلِمُونَ فِيهِ، فَدَأَبَ فِيهِ وَدَأَبُوا.
وَأَبْطَأَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَعَنْ الْمُسْلِمِينَ فِي عَمَلِهِمْ ذَلِكَ
رِجَالٌ مِنْ الْمُنَافِقِينَ، وَجَعَلُوا يُوَرُّونَ [١] بِالضَّعِيفِ مِنْ
الْعَمَلِ، وَيَتَسَلَّلُونَ إلَى أَهْلِيهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ مِنْ رَسُولِ
اللَّهِ ﷺ، وَلَا إذْنٍ. وَجَعَلَ الرَّجُلُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ إذَا نَابَتْهُ
النَّائِبَةُ، مِنْ الْحَاجَةِ الَّتِي لَا بُدَّ لَهُ مِنْهَا، يَذْكُرُ ذَلِكَ
لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَيَسْتَأْذِنُهُ فِي اللُّحُوقِ بِحَاجَتِهِ، فَيَأْذَنُ
لَهُ، فَإِذَا قَضَى حَاجَتَهُ رَجَعَ إلَى مَا كَانَ فِيهِ مِنْ عَمَلِهِ،
رَغْبَةً فِي الْخَيْرِ، وَاحْتِسَابًا لَهُ.
(مَا
نَزَلَ فِي الْعَامِلِينَ فِي الْخَنْدَقِ مُؤْمِنِينَ وَمُنَافِقِينَ):
فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِي
أُولَئِكَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا
بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا
حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ، إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ
يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ
فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ، وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ الله، إِنَّ اللَّهَ
غَفُورٌ رَحِيمٌ ٢٤: ٦٢. فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِيمَنْ كَانَ مِنْ
الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَهْلِ الْحِسْبَةِ وَالرَّغْبَةِ فِي الْخَيْرِ،
وَالطَّاعَةِ للَّه وَلِرَسُولِهِ ﷺ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى، يَعْنِي
الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ كَانُوا يَتَسَلَّلُونَ مِنْ الْعَمَلِ، وَيَذْهَبُونَ
بِغَيْرِ إذْنٍ مِنْ النَّبِيِّ ﷺ: لَا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ
كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا، قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ
مِنْكُمْ لِواذًا، فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ
تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ، أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ ٢٤: ٦٣.
(تَفْسِيرُ
ابْنِ هِشَامٍ لِبَعْضِ الْغَرِيبِ):
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: اللِّوَاذُ:
الِاسْتِتَارُ بِالشَّيْءِ عِنْدَ الْهَرَبِ، قَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ:
[١] يورون: يستترون.
وَقُرَيْشٌ تَفِرُّ مِنَّا لِوَاذًا
... أَنْ يُقِيمُوا وَخَفَّ مِنْهَا الْحُلُومُ
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ
لَهُ، قَدْ ذَكَرْتهَا فِي أَشْعَارِ يَوْمِ أُحُدٍ.
«أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ ٢٤: ٦٤»
.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: مِنْ صَدْقٍ
أَوْ كَذِبٍ.
«وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ
فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا، وَالله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ٢٤: ٦٤»
.
(ارْتِجَازُ
الْمُسْلِمِينَ فِي حَفْرِ الْخَنْدَقِ):
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَعَمِلَ
الْمُسْلِمُونَ فِيهِ حَتَّى أَحْكَمُوهُ، وَارْتَجَزُوا فِيهِ بِرَجُلِ مِنْ
الْمُسْلِمِينَ، يُقَالُ لَهُ جُعَيْلٌ، سَمَّاهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: عَمْرًا،
فَقَالُوا:
سَمَّاهُ مِنْ بَعْدِ جُعَيْلٍ
عَمْرَا ... وَكَانَ لِلْبَائِسِ يَوْمًا ظَهْرَا [١]
فَإِذَا [٢] مَرُّوا «بِعَمْرٍو»
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: عَمْرًا، وَإِذَا مَرُّوا «بِظَهْرٍ» قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ ﷺ: ظَهْرًا [٣] .
(مَا
ظَهَرَ مِنْ الْمُعْجِزَاتِ):
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَكَانَ فِي
حَفْرِ الْخَنْدَقِ أَحَادِيثُ بَلَغَتْنِي، فِيهَا مِنْ اللَّهِ تَعَالَى
عِبْرَةٌ فِي تَصْدِيقِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَتَحْقِيقِ نُبُوَّتِهِ، عَايَنَ
ذَلِكَ الْمُسْلِمُونَ.
(مُعْجِزَةُ
الْكُدْيَةِ):
فَكَانَ مِمَّا بَلَغَنِي أَنَّ
جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ كَانَ يُحَدِّثُ: أَنَّهُ اشْتَدَّتْ عَلَيْهِمْ فِي
بَعْضِ الْخَنْدَقِ كُدْيَةٌ، فَشَكَوْهَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَدَعَا
بِإِنَاءِ مِنْ مَاءٍ، فَتَفَلَ فِيهِ، ثُمَّ دَعَا بِمَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ
يَدْعُوَ بِهِ، ثُمَّ نَضَحَ ذَلِكَ الْمَاءَ عَلَى تِلْكَ الْكُدْيَةِ،
[١] الظّهْر: الْقُوَّة والمعونة.
وَالضَّمِير فِي «سَمَّاهُ» و«كَانَ» للنّبيّ ﷺ. قَالَ أَبُو ذَر «وَقد يجوز فِيهِ
وَجه ثَان، وَهُوَ أَن يكون الظّهْر (هُنَا): الْإِبِل، فَيكون الْبَيْت على وَجه
آخر، تَقْدِيره وَكَانَ المَال للبائس يَوْمًا ظهرا، فأضمر اسْم كَانَ وَإِن لم
يتَقَدَّم مَا يفسره، لِأَن مساق الْكَلَام يدل عَلَيْهِ، كَمَا قَالُوا: إِذا
كَانَ غَدا فأتنى، أَي إِذا كَانَ الْيَوْم غَدا» .
[٢]
زَادَت أبعد هَذَا الْبَيْت «فِي كتاب ابْن إِسْحَاق طهرا» .
[٣]
أَي قَالَ مَعَهم آخر أَيْضا، فَكَانُوا يرتجزون هَذَا الشّعْر، وَكَانَ النَّبِي
ﷺ يَقُول مَعَهم أَوَاخِر أبياته.
فَيَقُولُ من حضرها: فو الّذي
بَعَثَهُ بِالْحَقِّ نبيّا، لَا نهالت [١] حَتَّى عَادَتْ كَالْكَثِيبِ، لَا
تَرُدُّ فَأْسًا وَلَا مِسْحَاةً.
(الْبَرَكَةُ
فِي تَمْرِ ابْنَةِ بَشِيرٍ):
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي
سَعِيدُ بْنُ مِينَا أَنَّهُ حُدِّثَ: أَنَّ ابْنَةً لِبَشِيرِ بْنِ سَعْدٍ،
أُخْتِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، قَالَتْ: دَعَتْنِي أُمِّي عَمْرَةُ بِنْتُ
رَوَاحَةَ، فَأَعْطَتْنِي حَفْنَةً مِنْ تَمْرٍ فِي ثَوْبِي، ثُمَّ قَالَتْ: أَيْ
بُنَيَّةُ، اذْهَبِي إلَى أَبِيكَ وَخَالِكَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ
بِغَدَائِهِمَا، قَالَتْ: فَأَخَذْتهَا، فَانْطَلَقْتُ بِهَا، فَمَرَرْتُ
بِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَأَنَا أَلْتَمِسُ أَبِي وَخَالِي، فَقَالَ: تَعَالَيْ يَا
بُنَيَّةُ، مَا هَذَا مَعَكَ؟ قَالَتْ:
فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ،
هَذَا تَمْرٌ، بَعَثَتْنِي بِهِ أُمِّي إلَى أَبِي بَشِيرِ بْنِ سَعْدٍ، وَخَالِي
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ يَتَغَدَّيَانِهِ، قَالَ: هَاتِيهِ، قَالَتْ:
فَصَبَبْتُهُ فِي كَفَّيْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَمَا مَلَأَتْهُمَا، ثُمَّ أَمَرَ
بِثَوْبِ فَبُسِطَ لَهُ، ثُمَّ دَحَا بِالتَّمْرِ عَلَيْهِ، فَتَبَدَّدَ فَوْقَ
الثَّوْبِ، ثُمَّ قَالَ لِإِنْسَانِ عِنْدَهُ: اُصْرُخْ فِي أَهْلِ الْخَنْدَقِ:
أَنْ هَلُمَّ إلَى الْغَدَاءِ. فَاجْتَمَعَ أَهْلُ الْخَنْدَقِ عَلَيْهِ،
فَجَعَلُوا يَأْكُلُونَ مِنْهُ، وَجَعَلَ يَزِيدُ، حَتَّى صَدَرَ أَهْلُ
الْخَنْدَقِ عَنْهُ، وَإِنَّهُ لَيَسْقُطُ مِنْ أَطْرَافِ الثَّوْبِ.
(الْبَرَكَةُ
فِي طَعَامِ جَابِرٍ):
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي
سَعِيدُ بْنُ مِينَا، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: عَمِلْنَا مَعَ
رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِي الْخَنْدَقِ، فَكَانَتْ عِنْدِي شُوَيْهَةٌ، غَيْرُ جِدٍّ
سَمِينَةٌ [٢] . قَالَ: فَقُلْتُ: وَاَللَّهِ لَوْ صَنَعْنَاهَا لرَسُول الله ﷺ،
قَالَ:
فَأَمَرْتُ امْرَأَتِي، فَطَحَنَتْ
لَنَا شَيْئًا مِنْ شَعِيرٍ، فَصَنَعَتْ لَنَا مِنْهُ خُبْزًا، وَذَبَحَتْ تِلْكَ
الشَّاةَ، فَشَوَيْنَاهَا لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ. قَالَ: فَلَمَّا أَمْسَيْنَا
وَأَرَادَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ الِانْصِرَافَ عَنْ الْخَنْدَقِ- قَالَ: وَكُنَّا
نَعْمَلُ فِيهِ نَهَارَنَا، فَإِذَا أَمْسَيْنَا رَجَعْنَا إلَى أَهَالِيِنَا-
قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنِّي قَدْ صَنَعْتُ لَكَ شُوَيْهَةً كَانَتْ
عِنْدَنَا، وَصَنَعْنَا مَعَهَا شَيْئًا مِنْ خُبْزِ هَذَا الشَّعِيرِ، فَأُحِبُّ
أَنْ تَنْصَرِفَ
[١] انهالت: تفتتت.
[٢]
غير جد سَمِينَة: غير كَامِلَة السّمن.
مَعِي إلَى مَنْزِلِي، وَإِنَّمَا
أُرِيدُ أَنْ يَنْصَرِفَ مَعِي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَحْدَهُ.
قَالَ: فَلَمَّا أَنْ قُلْتُ لَهُ
ذَلِكَ، قَالَ: نَعَمْ، ثُمَّ أَمَرَ صَارِخًا فَصَرَخَ: أَنْ انْصَرِفُوا مَعَ
رَسُولِ اللَّهِ ﷺ إلَى بَيْتِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: قُلْتُ:
إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ ٢: ١٥٦! قَالَ: فَأَقْبَلَ رَسُولُ
اللَّهِ ﷺ، وَأَقْبَلَ النَّاسُ مَعَهُ، قَالَ: فَجَلَسَ وَأَخْرَجْنَاهَا
إلَيْهِ. قَالَ: فَبَرَّكَ وَسَمَّى (اللَّهَ) [١]، ثُمَّ أَكَلَ، وَتَوَارَدَهَا
النَّاسُ، كُلَّمَا فَرَغَ قَوْمٌ قَامُوا وَجَاءَ نَاسٌ، حَتَّى صَدَرَ أَهْلُ
الْخَنْدَقِ عَنْهَا.
(مَا
أَرَى اللَّهُ رَسُولَهُ مِنْ الْفَتْحِ):
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحُدِّثْتُ
عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ، أَنَّهُ قَالَ: ضَرَبْتُ فِي نَاحِيَةٍ مِنْ
الْخَنْدَقِ، فَغَلُظَتْ عَلَيَّ صَخْرَةٌ، وَرَسُولُ اللَّهِ ﷺ قَرِيبٌ مِنِّي،
فَلَمَّا رَآنِي أَضْرِبُ وَرَأَى شِدَّةَ الْمَكَانِ عَلَيَّ، نَزَلَ فَأَخَذَ
الْمِعْوَلَ مِنْ يَدِي، فَضَرَبَ بِهِ ضَرْبَةً لَمَعَتْ تَحْتَ الْمِعْوَلِ
بُرْقَةٌ، قَالَ: ثُمَّ ضَرَبَ بِهِ ضَرْبَةً أُخْرَى، فَلَمَعَتْ تَحْتَهُ
بُرْقَةٌ أُخْرَى، قَالَ: ثُمَّ ضَرَبَ بِهِ الثَّالِثَةَ، فَلَمَعَتْ تَحْتَهُ
بُرْقَةٌ أُخْرَى. قَالَ: قُلْتُ:
بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ
اللَّهِ! مَا هَذَا الَّذِي رَأَيْتُ لَمَعَ تَحْتَ الْمِعْوَلِ وَأَنْتَ
تَضْرِبُ؟
قَالَ: أَوَقَدْ رَأَيْتُ ذَلِكَ يَا
سَلْمَانُ؟ قَالَ: قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: أَمَّا الْأُولَى فَإِنَّ اللَّهَ
فَتَحَ عَلَيَّ بِهَا الْيَمَنَ، وَأَمَّا الثَّانِيَةُ فَإِنَّ اللَّهَ فَتَحَ
عَلَيَّ بِهَا الشَّامَ وَالْمَغْرِبَ، وَأَمَّا الثَّالِثَةُ فَإِنَّ اللَّهَ
فَتَحَ عَلَيَّ بِهَا الْمَشْرِقَ. قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي مَنْ لَا
أَتَّهِمُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ، حِينَ فُتِحَتْ هَذِهِ
الْأَمْصَارُ فِي زَمَانِ عُمَرَ وَزَمَانِ عُثْمَانَ وَمَا بَعْدَهُ: افْتَتِحُوا
مَا بدا لكم، فو الّذي نفس أَبِي هُرَيْرَةَ بِيَدِهِ، مَا افْتَتَحْتُمْ مِنْ
مَدِينَةٍ وَلَا تَفْتَتِحُونَهَا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إلَّا وَقَدْ أَعْطَى
اللَّهُ سُبْحَانَهُ مُحَمَّدًا ﷺ مَفَاتِيحَهَا قَبْلَ ذَلِكَ.
(نُزُولُ
قُرَيْشٍ الْمَدِينَةَ):
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَلَمَّا
فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مِنْ الْخَنْدَقِ، أَقْبَلَتْ قُرَيْشٌ حَتَّى نَزَلَتْ
بِمُجْتَمَعِ الْأَسْيَالِ مِنْ رُومَةَ، بَيْنَ الْجُرُفِ وَزَغَابَةَ [٢] فِي
عَشْرَةِ آلَافٍ
[١] زِيَادَة عَن أ.
[٢]
قَالَ أَبُو ذَر: «كَذَا وَقع هُنَا بالزاء مَفْتُوحَة. ورغابة بالراء
الْمَفْتُوحَة هُوَ الْجيد، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ الوقشى» .
مِنْ أَحَابِيشِهِمْ، وَمَنْ
تَبِعَهُمْ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ وَأَهْلِ تِهَامَةَ، وَأَقْبَلَتْ غَطَفَانُ
وَمَنْ تَبِعَهُمْ مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ، حَتَّى نَزَلُوا بِذَنَبِ نَقْمَى، إلَى
جَانِبِ أُحُدٍ. وَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَالْمُسْلِمُونَ، حَتَّى جَعَلُوا
ظُهُورَهُمْ إلَى سَلْعٍ [١]، فِي ثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنْ الْمُسلمين، فَضرب لَك
عَسْكَرَهُ، وَالْخَنْدَقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقَوْمِ.
(اسْتِعْمَالُ
ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ عَلَى الْمَدِينَةِ):
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَاسْتَعْمَلَ
عَلَى الْمَدِينَةِ ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَأَمَرَ
بِالذَّرَارِيِّ وَالنِّسَاءِ فَجُعِلُوا فِي الْآطَامِ [٢] .
(حَمْلُ
حُيَيٍّ كَعْبًا عَلَى نَقْضِ عَهْدِهِ لِلرَّسُولِ):
(قَالَ)
[٣]: وَخَرَجَ عَدُوُّ اللَّهِ حُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ النَّضْرِيُّ، حَتَّى أَتَى
كَعْبَ ابْن أَسَدٍ الْقُرَظِيَّ، صَاحِبَ عَقْدِ بَنِي قُرَيْظَةَ وَعَهْدِهِمْ،
وَكَانَ قَدْ وَادَعَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَلَى قَوْمِهِ، وَعَاقَدَهُ عَلَى ذَلِكَ
وَعَاهَدَهُ، فَلَمَّا سَمِعَ كَعْبٌ بِحُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ أَغْلَقَ دُونَهُ
بَابَ حِصْنِهِ، فَاسْتَأْذَنَ عَلَيْهِ، فَأَبَى أَنْ يَفْتَحَ لَهُ، فَنَادَاهُ
حُيَيٌّ: وَيْحَكَ يَا كَعْبُ! افْتَحْ لِي، قَالَ: وَيْحكَ يَا حُيَيُّ: إنَّكَ
امْرُؤٌ مَشْئُومٌ، وَإِنِّي قَدْ عَاهَدْتُ مُحَمَّدًا، فَلَسْتُ بِنَاقِضٍ مَا
بَيْنِي وَبَيْنَهُ، وَلَمْ أَرَ مِنْهُ إلَّا وَفَاءً وَصِدْقًا، قَالَ وَيْحَكَ
افْتَحْ لِي أُكَلِّمْكَ، قَالَ: مَا أَنَا بِفَاعِلِ، قَالَ: وَاَللَّهِ إنْ
أَغْلَقْتُ دُونِي إلَّا عَنْ جَشِيشَتِكَ [٤]
[()] وَقَالَ السهيليّ: «زغابة: اسْم
مَوضِع، بالغين المنقوطة والزاى الْمَفْتُوحَة. وَذكره الْبكْرِيّ بِهَذَا
اللَّفْظ بعد أَن قدم القَوْل بِأَنَّهُ زغابة، بِضَم الزاى وَالْعين الْمُهْملَة.
وَحكى عَن الطَّبَرِيّ أَنه قَالَ فِي هَذَا الحَدِيث:
بَين الجرف والغابة، وَاخْتَارَ
هَذِه الرِّوَايَة وَقَالَ: لِأَن زغابة لَا تعرف. قَالَ السهيليّ: والأعرف
عِنْدِي فِي هَذِه الرِّوَايَة رِوَايَة من قَالَ زغابة، بالغين المنقوطة، لِأَن
فِي الحَدِيث الْمسند أَنه عليه الصلاة والسلام قَالَ فِي نَاقَة أهداها إِلَيْهِ
أعرابى، فكافأه بست بكرات، فَلم يرض، فَقَالَ عليه السلام: أَلا تعْجبُونَ لهَذَا الْأَعرَابِي:
أهْدى إِلَى نَاقَة أعرفهَا بِعَينهَا كَمَا أعرف بعض أَهلِي، ذهبت منى يَوْم
زغابة، وَقد كافأته بست فسخط» .
[١]
سلع: جبل بِالْمَدِينَةِ.
[٢]
الْآطَام: الْحُصُون، الْوَاحِد: أَطَم.
[٣]
زِيَادَة عَن أ.
[٤]
الجشيشة: طَعَام يصنع من الجشيش، وَهُوَ الْبر يطحن غليظا، وَهُوَ الّذي تَقول
لَهُ الْعَامَّة:
«دشيش» بِالدَّال، وَالصَّوَاب
الْجِيم.
أَنْ آكُلَ مَعَكَ مِنْهَا [١]،
فَاحْفَظْ [٢] الرَّجُلَ، فَفَتَحَ لَهُ، فَقَالَ: وَيْحَكَ يَا كَعْبُ، جِئْتُكَ
بِعِزِّ الدَّهْرِ وَبِبَحْرٍ طَامٍّ [٣]، جِئْتُكَ بِقُرَيْشٍ عَلَى قَادَتِهَا
وَسَادَتِهَا، حَتَّى أَنْزَلْتهمْ بِمُجْتَمَعِ الْأَسْيَالِ مِنْ رُومَةَ،
وَبِغَطَفَانَ عَلَى قَادَتِهَا وَسَادَتِهَا حَتَّى أَنْزَلَتْهُمْ بِذَنَبِ
نَقْمَى إلَى جَانِبِ أُحُدٍ، قَدْ عَاهَدُونِي وَعَاقَدُونِي عَلَى أَنْ لَا
يَبْرَحُوا حَتَّى نَسْتَأْصِلَ مُحَمَّدًا وَمَنْ مَعَهُ. قَالَ: فَقَالَ لَهُ
كَعْبٌ: جِئْتنِي وَاَللَّهِ بِذُلِّ الدَّهْرِ، وَبِجَهَامٍ [٤] . قَدْ هَرَاقَ
مَاءَهُ، فَهُوَ يَرْعَدُ وَيَبْرُقُ، لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ، وَيْحَكَ يَا حُيَيُّ!
فَدَعْنِي وَمَا أَنَا عَلَيْهِ، فَإِنِّي لَمْ أَرَ مِنْ مُحَمَّدٍ إلَّا صِدْقًا
وَوَفَاءً. فَلَمْ يَزَلْ حُيَيٌّ بِكَعْبِ يَفْتِلُهُ فِي الذَّرْوَةِ
وَالْغَارِبِ [٥]، حَتَّى سَمَحَ لَهُ، عَلَى أَنْ أَعْطَاهُ عَهْدًا (مِنْ
اللَّهِ) [٦] وَمِيثَاقًا: لَئِنْ رَجَعَتْ قُرَيْشٌ وَغَطَفَانُ، وَلَمْ
يُصِيبُوا مُحَمَّدًا أَنْ أَدْخُلَ مَعَكَ فِي حِصْنِكَ حَتَّى يُصِيبَنِي مَا
أَصَابَكَ. فَنَقَضَ كَعْبُ بْنُ أَسَدٍ عَهْدَهُ، وَبَرِئَ مِمَّا كَانَ بَيْنَهُ
وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ.
(تَحَرِّي
الرَّسُولِ عَنْ نَقْضِ كَعْبٍ لِلْعَهْدِ):
فَلَمَّا انْتَهَى إلَى رَسُولِ
اللَّهِ ﷺ الْخَبَرُ وَإِلَى الْمُسْلِمِينَ، بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ سَعْدَ
بْنَ مُعَاذِ بْنِ النُّعْمَانِ، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ سَيِّدُ الْأَوْسِ، وَسَعْدَ
ابْن عُبَادَةَ بْنِ دُلَيْمٍ، أَحَدَ بَنِي سَاعِدَةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ
الْخَزْرَجِ وَهُوَ يَوْمَئِذٍ سَيِّدُ الْخَزْرَجِ وَمَعَهُمَا عَبْدُ اللَّهِ
بْنُ رَوَاحَةَ، أَخُو بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ [٧]، وَخَوَّاتُ بْنُ
جُبَيْرٍ، أَخُو بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، فَقَالَ: انْطَلِقُوا حَتَّى
تَنْظُرُوا، أَحَقٌّ مَا بَلَغَنَا عَنْ هَؤُلَاءِ
[١] كَذَا وَردت هَذِه الْعبارَة فِي أ.
وَنَصهَا فِي سَائِر الْأُصُول: «إِن أغلقت الْحصن دوني إِلَّا تخوفت على جشيشتك
أَن آكل مِنْهَا مَعَك» .
[٢]
أحفظه: أغضبهُ.
[٣]
آطام: مُرْتَفع، وَيُرِيد كَثْرَة الرِّجَال.
[٤]
الجهام: السَّحَاب الرَّقِيق الّذي لَا مَاء فِيهِ.
[٥]
هَذَا مثل، وَأَصله فِي الْبَعِير يستصعب عَلَيْك، فتأخذ القرادة من ذروته وغارب
سنامه وتفتل هُنَاكَ، فيجد الْبَعِير لَذَّة، فيأنس عِنْد ذَلِك. فَضرب هَذَا
الْكَلَام مثلا فِي المراوضة والمخاتلة.
[٦]
زِيَادَة عَن أ.
[٧]
فِي أ: «أَخُو بنى الْخَزْرَج» .
الْقَوْمِ أَمْ لَا؟ فَإِنْ كَانَ
حَقًّا فَالْحَنُوا لِي لَحْنًا [١] أَعْرِفُهُ، وَلَا تَفُتُّوا فِي أَعْضَادِ
النَّاسِ [٢] وَإِنْ كَانُوا عَلَى الْوَفَاءِ فِيمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ
فَاجْهَرُوا بِهِ لِلنَّاسِ. قَالَ: فَخَرَجُوا حَتَّى أَتَوْهُمْ، فَوَجَدُوهُمْ
عَلَى أَخْبَثِ مَا بَلَغَهُمْ عَنْهُمْ، (فِيمَا) [٣] نَالُوا مِنْ رَسُولِ
اللَّهِ ﷺ، وَقَالُوا: مَنْ رَسُولُ اللَّهِ؟ لَا عَهْدَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ
مُحَمَّدٍ وَلَا عَقْدَ. فَشَاتَمَهُمْ سَعْدُ ابْن مُعَاذٍ وَشَاتَمُوهُ، وَكَانَ
رَجُلًا فِيهِ حِدَّةٌ، فَقَالَ لَهُ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ: دَعْ عَنْكَ
مُشَاتَمَتَهُمْ، فَمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ أَرْبَى [٤] مِنْ الْمُشَاتَمَةِ.
ثُمَّ أَقْبَلَ سَعْدٌ وَسَعْدٌ وَمَنْ مَعَهُمَا، إلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ،
فَسَلَّمُوا عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالُوا: عَضَلٌ وَالْقَارَّةُ، أَيْ كَغَدْرِ عَضَلٍ
وَالْقَارَّةِ بِأَصْحَابِ الرَّجِيعِ، خُبَيْبٍ وَأَصْحَابِهِ، فَقَالَ رَسُولُ
اللَّهِ ﷺ: اللَّهُ أَكْبَرُ، أَبْشِرُوا يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ.
(مَا
عَمَّ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الْخَوْفِ وَظُهُورُ نِفَاقِ الْمُنَافِقِينَ):
(قَالَ)
[٣]: وَعَظُمَ عِنْدَ ذَلِكَ الْبَلَاءُ، وَاشْتَدَّ الْخَوْفُ، وَأَتَاهُمْ
عَدُوُّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْهُمْ، حَتَّى ظَنَّ
الْمُؤْمِنُونَ كُلَّ ظَنٍّ، وَنَجَمَ النِّفَاقُ مِنْ بَعْضِ الْمُنَافِقِينَ،
حَتَّى قَالَ مُعَتِّبُ بْنُ قُشَيْرٍ، أَخُو بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ: كَانَ
مُحَمَّدٌ يَعِدُنَا أَنْ نَأْكُلَ كُنُوزَ كِسْرَى وَقَيْصَرَ، وَأَحَدُنَا
الْيَوْمَ لَا يَأْمَنُ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ يَذْهَبَ إلَى الْغَائِطِ.
(رَأْيُ
ابْنِ هِشَامٍ فِي نِفَاقِ مُعَتِّبٍ):
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَأَخْبَرَنِي
مَنْ أَثِقُ بِهِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: أَنَّ مُعَتِّبَ بْنَ قُشَيْرٍ لَمْ
يَكُنْ مِنْ الْمُنَافِقِينَ، وَاحْتَجَّ بِأَنَّهُ كَانَ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَتَّى
قَالَ أَوْسُ بْنُ قَيْظِيٍّ، أَحَدُ بَنِي حَارِثَةَ بْنِ الْحَارِثِ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّ
بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ مِنْ الْعَدُوِّ، وَذَلِكَ عَنْ مَلَأٍ مِنْ رِجَالِ
قَوْمِهِ، فَأْذَنْ لَنَا أَنْ نَخْرُجَ فَنَرْجِعَ إلَى دَارِنَا، فَإِنَّهَا
خَارِجٌ مِنْ الْمَدِينَةِ. فَأَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ
[١] اللّحن: اللغز، وَهُوَ أَنه يُخَالف
ظَاهر الْكَلَام مَعْنَاهُ.
[٢]
يُقَال: فت فِي عضده، إِذا أضعفه وأوهنه.
[٣]
زِيَادَة عَن أ.
[٤]
أربى: أعظم.
وَأَقَامَ عَلَيْهِ الْمُشْرِكُونَ
بِضْعًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً، قَرِيبًا مِنْ شَهْرٍ، لَمْ تَكُنْ بَيْنَهُمْ
حَرْبٌ إلَّا الرَّمِّيا [١] بِالنَّبْلِ وَالْحِصَارُ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُقَالُ
الرَّمْيَا.
(هَمَّ
الرَّسُولُ بِعَقْدِ الصُّلْحِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَطَفَانَ ثُمَّ عَدَلَ):
فَلَمَّا اشْتَدَّ عَلَى النَّاسِ
الْبَلَاءُ، بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، كَمَا حَدَّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ
قَتَادَةَ وَمَنْ لَا أَتَّهِمُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمِ بْنِ عُبَيْدِ [٢]
اللَّهِ بْنِ شِهَابٍ الزُّهْرِيِّ، إلَى عُيَيْنَةَ بْنِ حِصْنِ بْنِ حُذَيْفَةَ
بْنِ بَدْرٍ، وَإِلَى الْحَارِثِ بْنِ عَوْفِ بْنِ أَبِي حَارِثَةَ الْمُرِّيِّ،
وَهُمَا قَائِدَا غَطَفَانَ، فَأَعْطَاهُمَا ثُلُثَ ثِمَارِ الْمَدِينَةِ عَلَى
أَنْ يَرْجِعَا بِمَنْ مَعَهُمَا عَنْهُ وَعَنْ أَصْحَابِهِ، فَجَرَى بَيْنَهُ
وَبَيْنَهُمَا الصُّلْحُ، حَتَّى كَتَبُوا الْكِتَابَ وَلَمْ تَقَعْ الشَّهَادَةُ
وَلَا عَزِيمَةُ الصُّلْحِ، إلَّا الْمُرَاوَضَةُ فِي ذَلِكَ. فَلَمَّا أَرَادَ
رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَنْ يَفْعَلَ، بَعَثَ إلَى سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ وَسَعْدِ بْنِ
عُبَادَةَ، فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُمَا، وَاسْتَشَارَهُمَا فِيهِ، فَقَالَا لَهُ: يَا
رَسُولَ اللَّهِ، أَمْرًا نُحِبُّهُ فَنَصْنَعُهُ، أَمْ شَيْئًا أَمَرَكَ اللَّهُ
بِهِ، لَا بُدَّ لَنَا مِنْ الْعَمَلِ بِهِ، أَمْ شَيْئًا تَصْنَعُهُ لَنَا؟
قَالَ: بَلْ شَيْءٌ أَصْنَعُهُ لَكُمْ، وَاَللَّهِ مَا أَصْنَعُ ذَلِكَ إلَّا
لِأَنَّنِي رَأَيْتُ الْعَرَبَ قَدْ رَمَتْكُمْ عَنْ قَوْسٍ وَاحِدَةٍ،
وَكَالَبُوكُمْ [٣] مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، فَأَرَدْتُ أَنْ أَكْسِرَ عَنْكُمْ مِنْ
شَوْكَتِهِمْ إلَى أَمْرٍ مَا، فَقَالَ لَهُ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ: يَا رَسُولَ
اللَّهِ، قَدْ كُنَّا نَحْنُ وَهَؤُلَاءِ الْقَوْمُ عَلَى الشِّرْكِ باللَّه
وَعِبَادَةِ الْأَوْثَانِ، لَا نَعْبُدُ اللَّهَ وَلَا نَعْرِفُهُ، وَهُمْ لَا
يَطْمَعُونَ أَنْ يَأْكُلُوا مِنْهَا تَمْرَةً إلَّا قِرًى [٤] أَوْ بَيْعًا،
أَفَحِينَ أَكْرَمْنَا اللَّهُ بِالْإِسْلَامِ وَهَدَانَا لَهُ وَأَعَزَّنَا بِكَ
وَبِهِ، نُعْطِيهِمْ أَمْوَالَنَا! (وَاَللَّهِ) [٥] مَا لَنَا بِهَذَا مِنْ
حَاجَةٍ، وَاَللَّهِ لَا نُعْطِيهِمْ إلَّا السَّيْفَ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ
بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: فَأَنْتَ وَذَاكَ. فَتَنَاوَلَ
سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ الصَّحِيفَةَ، فَمَحَا مَا فِيهَا مِنْ الْكِتَابِ، ثُمَّ
قَالَ: لِيَجْهَدُوا عَلَيْنَا.
[١] الرميا (بِكَسْر الرَّاء وَالْمِيم
مشددتين وَتَخْفِيف الْيَاء): المراماة.
[٢]
كَذَا فِي أ. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «عبد الله» .
[٣]
كالبوكم: اشتدوا عَلَيْكُم.
[٤]
الْقرى: مَا يصنع للضيف من الطَّعَام.
[٥]
هَذِه الْكَلِمَة سَاقِطَة فِي أ.
(عُبُورُ نَفَرٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ
الْخَنْدَقَ):
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَأَقَامَ
رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَالْمُسْلِمُونَ، وَعَدُوُّهُمْ مُحَاصِرُوهُمْ، وَلَمْ يَكُنْ
بَيْنَهُمْ قِتَالٌ، إلَّا أَنَّ فَوَارِسَ مِنْ قُرَيْشٍ، مِنْهُمْ عَمْرُو بْنُ
عَبْدِ وُدِّ بْنِ أَبِي قَيْسٍ، أَخُو بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ.
- قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُقَالُ:
عَمْرُو بْنُ عَبْدِ بْنِ أَبِي قَيْسٍ- قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَعِكْرِمَةُ بْنُ
أَبِي جَهْلٍ، وَهُبَيْرَةُ بْنُ أَبِي وَهْبٍ الْمَخْزُومِيَّانِ، وَضِرَارُ بْنُ
الْخَطَّابِ الشَّاعِرُ [١] ابْن مِرْدَاسٍ، أَخُو بَنِي مُحَارِبِ بْنِ فِهْرٍ،
تَلَبَّسُوا لِلْقِتَالِ، ثُمَّ خَرَجُوا عَلَى خَيْلِهِمْ، حَتَّى مَرُّوا
بِمَنَازِلِ بَنِي كِنَانَةَ، فَقَالُوا: تَهَيَّئُوا يَا بَنِي كِنَانَةَ
لِلْحَرْبِ [٢]، فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ الْفُرْسَانُ الْيَوْمَ. ثُمَّ أَقْبَلُوا
تُعْنِقُ [٣] بِهِمْ خَيْلُهُمْ، حَتَّى وَقَفُوا عَلَى الْخَنْدَقِ، فَلَمَّا
رَأَوْهُ قَالُوا: وَاَللَّهِ إنَّ هَذِهِ لَمَكِيدَةٌ مَا كَانَتْ الْعَرَبُ
تَكِيدُهَا.
(سَلْمَانُ
وَإِشَارَتُهُ بِحَفْرِ الْخَنْدَقِ):
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: يُقَالُ: إنَّ
سَلْمَانَ الْفَارِسِيَّ أَشَارَ بِهِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ.
وَحَدَّثَنِي [٤] بَعْضُ أَهْلِ
الْعِلْمِ: أَنَّ الْمُهَاجِرِينَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ قَالُوا: سَلْمَانُ مِنَّا،
وَقَالَتْ الْأَنْصَارُ: سَلْمَانُ مِنَّا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: سَلْمَانُ
مِنَّا أَهْلَ الْبَيْتِ.
(قَتْلُ
عَلِيٍّ لِعَمْرِو بْنِ عَبْدِ وُدٍّ وَشِعْرُهُ فِي ذَلِكَ):
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: ثُمَّ
تَيَمَّمُوا مَكَانًا ضَيِّقًا مِنْ الْخَنْدَقِ، فَضَرَبُوا خَيْلَهُمْ
فَاقْتَحَمَتْ مِنْهُ، فَجَالَتْ بِهِمْ فِي السَّبْخَةِ بَيْنَ الْخَنْدَقِ
وَسَلْعٍ، وَخَرَجَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عليه السلام فِي نَفَرٍ مَعَهُ
مِنْ الْمُسْلِمِينَ، حَتَّى أَخَذُوا عَلَيْهِمْ الثَّغْرَةَ [٥] الَّتِي
أَقْحَمُوا مِنْهَا خَيْلَهُمْ
[١] هَذِه الْكَلِمَة سَاقِطَة فِي أ.
[٢]
فِي أ: «لِلْقِتَالِ» .
[٣]
تعنق: تسرع.
[٤]
زَادَت م، ر قبل هَذِه الْكَلِمَة: «قَالَ ابْن هِشَام» .
[٥]
الثغرة: الثلم الّذي كَانَ هُنَاكَ فِي الخَنْدَق.
وَأَقْبَلَتْ الْفُرْسَانُ تُعْنِقُ
نَحْوَهُمْ، وَكَانَ عَمْرُو بْنُ عَبْدِ وُدٍّ قَدْ قَاتَلَ يَوْمَ بَدْرٍ حَتَّى
أَثْبَتَتْهُ الْجِرَاحَةُ، فَلَمْ يَشْهَدْ يَوْمَ أُحُدٍ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ
الْخَنْدَقِ خَرَجَ مُعْلِمًا [١] لِيُرِيَ مَكَانَهُ. فَلَمَّا وَقَفَ هُوَ
وَخَيْلُهُ، قَالَ: مَنْ يُبَارِزُ؟ فَبَرَزَ لَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ
فَقَالَ لَهُ: يَا عَمْرُو، إنَّكَ قَدْ كُنْتُ عَاهَدْتُ اللَّهَ أَلَّا
يَدْعُوكَ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ إلَى إحْدَى خَلَّتَيْنِ إلَّا أَخَذْتَهَا
مِنْهُ، قَالَ لَهُ: أَجَلْ، قَالَ لَهُ عَلِيٌّ: فَإِنِّي أَدْعُوكَ إلَى اللَّهِ
وَإِلَى رَسُولِهِ، وَإِلَى الْإِسْلَامِ، قَالَ: لَا حَاجَةَ لِي بِذَلِكَ،
قَالَ: فَإِنِّي أَدْعُوكَ إلَى النِّزَالِ، فَقَالَ لَهُ: لِمَ يَا بن أخى؟ فو
الله مَا أُحِبُّ أَنْ أَقْتُلَكَ، قَالَ لَهُ عَلِيٌّ: لَكِنِّي وَاَللَّهِ
أُحِبُّ أَنْ أَقْتُلَكَ، فَحَمَى [٢] عَمْرٌو عِنْدَ ذَلِكَ، فَاقْتَحَمَ عَنْ
فَرَسِهِ، فَعَقَرَهُ، وَضَرَبَ وَجْهَهُ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى عَلِيٍّ،
فَتَنَازَلَا وَتَجَاوَلَا، فَقَتَلَهُ عَلِيٌّ رضي الله عنه [٣] .
وَخَرَجَتْ خَيْلُهُمْ مُنْهَزِمَةً،
حَتَّى اقْتَحَمَتْ مِنْ الْخَنْدَقِ هَارِبَةً. قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَالَ
عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ:
نَصَرَ الْحِجَارَةَ مِنْ سَفَاهَةِ
رَأْيِهِ ... وَنَصَرْتُ رَبَّ مُحَمَّدٍ بِصَوَابِي [٤]
فَصَدَدْتُ حِينَ تَرَكْتُهُ
مُتَجَدِّلًا ... كَالْجِذْعِ بَين دكادك وروابي [٥]
وَعَفَفْتُ عَنْ أَثْوَابِهِ وَلَوْ
أَنَّنِي ... كُنْتُ الْمُقَطَّرَ بَزَّنِى أَثْوَابِي [٦]
لَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ خَاذِلَ
دِينِهِ ... وَنَبِيِّهِ يَا مَعْشَرَ الْأَحْزَابِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَأَكْثَرُ
أَهْلِ الْعِلْمِ بِالشِّعْرِ يَشُكُّ فِيهَا لِعَلِيَّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ.
[١] الْمعلم: الّذي جعل لَهُ عَلامَة يعرف
بهَا.
[٢]
حمى: اشْتَدَّ غَضَبه.
[٣]
سَاق السهيليّ هَذِه الْقِصَّة عَن ابْن إِسْحَاق من غير رِوَايَة ابْن هِشَام عَن
البكائي بِزِيَادَة عَمَّا هُنَا، نكتفي بِالْإِشَارَةِ إِلَيْهَا (رَاجع الرَّوْض
ج ٢ ص ١٩١) .
[٤]
الْحِجَارَة (هُنَا): الأنصاب الَّتِي كَانُوا يعبدونها ويذبحون لَهَا.
[٥]
متجدلا: لاصقا بِالْأَرْضِ وَاسْمهَا الجدالة. والجذع: فرع النَّخْلَة. والدكادك:
جمع دكداك، هُوَ الرمل اللين. والروابي: جمع رابية، وَهِي الكدية المرتفعة.
[٦]
المقطر: الّذي. ألْقى على أحد قطريه، أَي جَنْبَيْهِ. والقطر. الْجَانِب، يُقَال:
طعنه فقطره، أَي أَلْقَاهُ على أحد جَنْبَيْهِ. وبزنى: سلبنى وجردنى.
١٥-
سيرة ابْن هِشَام- ٢
(شِعْرُ حَسَّانَ فِي فِرَارِ
عِكْرِمَةَ):
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ [١]: وَأَلْقَى
عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ رُمْحَهُ يَوْمَئِذٍ وَهُوَ مُنْهَزِمٌ عَنْ
عَمْرٍو، فَقَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ فِي ذَلِكَ:
فَرَّ وَأَلْقَى لَنَا رُمْحَهُ ...
لَعَلَّكَ عِكْرِمَ لَمْ تَفْعَلْ
وَوَلَّيْتَ تَعْدُو كَعَدْوِ
الظَّلِيمِ [٢] ... مَا إنْ تَجُورُ [٣] عَنْ الْمَعْدِلِ
وَلَمْ تَلْقَ ظَهْرَكَ [٤]
مُسْتَأْنِسًا ... كَأَنَّ قَفَاكَ قَفَا فُرْعُلِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: الْفُرْعُلُ:
صَغِيرُ الضِّبَاعِ، وَهَذِهِ الْأَبْيَاتُ فِي أَبْيَاتٍ لَهُ.
(شِعَارُ
الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ):
وَكَانَ شِعَارُ أَصْحَابِ رَسُولِ
اللَّهِ ﷺ يَوْمَ الْخَنْدَقِ وَبَنِيَّ قُرَيْظَةَ:
حم، لَا يُنْصَرُونَ.
(شَأْنُ
سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ):
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي
أَبُو لَيْلَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَهْلِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَهْلٍ
[٥] الْأَنْصَارِيُّ، أَخُو بَنِي حَارِثَةَ: أَنَّ عَائِشَةَ أُمَّ
الْمُؤْمِنِينَ كَانَتْ فِي حِصْنِ بَنِي حَارِثَةَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ، وَكَانَ
مِنْ أَحْرَزِ حُصُونِ الْمَدِينَةِ. قَالَ: وَكَانَتْ أُمُّ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ
مَعَهَا فِي الْحِصْنِ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُضْرَبَ
عَلَيْنَا الْحِجَابُ: فَمَرَّ سَعْدٌ وَعَلَيْهِ دِرْعٌ لَهُ مُقَلَّصَةٌ [٦]،
قَدْ خَرَجَتْ مِنْهَا ذِرَاعُهُ كُلُّهَا، وَفِي يَدِهِ حَرْبَتُهُ يَرْقُدُ [٧]
بِهَا وَيَقُولُ
لَبِّثْ قَلِيلًا يَشْهَدْ
الْهَيْجَا جَمَلْ ... لَا بَأْسَ بِالْمَوْتِ إذَا حَانَ الْأَجَلْ [٨]
[١] كَذَا فِي أ. وَفِي سَائِر الْأُصُول:
«قَالَ ابْن هِشَام» .
[٢]
الظليم: ذكر النعام.
[٣]
كَذَا فِي أ. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «تحور» بِالْحَاء الْمُهْملَة.
[٤]
كَذَا فِي أ. وَفِي سَائِر الْأُصُول «وَلم تلو» .
[٥]
هَذِه الْكَلِمَة سَاقِطَة فِي أ.
[٦]
مقلصة: قَصِيرَة قد ارْتَفَعت، يُقَال: تقلص الشَّيْء، إِذا ارْتَفع وانقبض.
[٧]
كَذَا فِي أ. ويرقد: يسْرع. وَفِي سَائِر الْأُصُول «يرقل» .
[٨]
كَذَا فِي الْأُصُول. قَالَ أَبُو ذَر: «جمل: اسْم رجل. وَهَذَا الرجز قديم تمثل
بِهِ سعد» .
وَفِي الرَّوْض: «حمل» بِالْحَاء
الْمُهْملَة، قَالَ السهيليّ: «هُوَ بَيت تمثل بِهِ، يعْنى بِهِ حمل بن سعدانة بن
الْحَارِث ابْن معقل بن كَعْب بن عليم بن جناب الْكَلْبِيّ» .
(قَالَ) فَقَالَتْ لَهُ أُمُّهُ: الحقّ: أَي
ابْني، فَقَدْ وَاَللَّهِ أَخَّرْتُ، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَقُلْتُ لَهَا: يَا
أُمَّ سَعْدٍ، وَاَللَّهِ لَوَدِدْتُ أَنَّ دِرْعَ سَعْدٍ كَانَتْ أَسْبَغَ [١]
مِمَّا هِيَ، قَالَتْ:
وَخِفْتِ عَلَيْهِ حَيْثُ أَصَابَ
السَّهْمُ مِنْهُ، فَرُمِيَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ بِسَهْمِ، فَقَطَعَ مِنْهُ
الْأَكْحَلَ [٢]، رَمَاهُ كَمَا حَدَّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ،
حِبَّانُ [٣] بْنُ قَيْسِ بْنِ الْعَرِقَةِ [٤]، أَحَدُ بَنِي عَامِرِ بْنِ
لُؤَيٍّ، فَلَمَّا أَصَابَهُ، قَالَ: خُذْهَا مِنِّي وَأَنَا ابْنُ الْعَرِقَةِ،
فَقَالَ لَهُ سَعْدُ: عَرَّقَ اللَّهُ وَجْهَكَ فِي النَّارِ، اللَّهمّ إنْ كُنْتَ
أَبْقَيْتَ مِنْ حَرْبِ قُرَيْشٍ شَيْئًا فَأَبْقِنِي لَهَا، فَإِنَّهُ لَا قَوْمَ
أَحَبَّ إلَيَّ أَنْ أُجَاهِدَهُمْ مِنْ قَوْمٍ آذَوْا رَسُولَكَ وَكَذَّبُوهُ
وَأَخْرَجُوهُ، اللَّهمّ وَإِنْ كُنْتُ قَدْ وَضَعْتُ الْحَرْبَ بَيْنَنَا
وَبَيْنَهُمْ فَاجْعَلْهُ لِي شَهَادَةً، وَلَا تُمِتْنِي حَتَّى تُقِرَّ عَيْنِي
مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ.
(شِعْرٌ
لِأُسَامَةَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ قَاتِلُ سَعْدٍ):
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي
مَنْ لَا أَتَّهِمُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ كَانَ
يَقُولُ: مَا أَصَابَ سَعْدًا يَوْمَئِذٍ إلَّا أَبُو أُسَامَةَ الْجُشَمِي،
حَلِيفُ بَنِي مَخْزُومٍ.
وَقَدْ قَالَ أَبُو أُسَامَةَ فِي
ذَلِكَ شِعْرًا [٥] لِعِكْرِمَةَ بْنِ أَبِي جَهْلٍ:
أَعِكْرِمُ هَلَّا لُمْتنِي إذْ
تَقُولُ لِي ... فِدَاكَ بِآطَامِ الْمَدِينَةِ خَالِدُ [٦]
أَلَسْتُ الَّذِي أَلْزَمْتُ سَعْدًا
مُرِشَّةً [٧] ... لَهَا بَيْنَ أَثْنَاءِ الْمَرَافِقِ عَانِدُ [٨]
قَضَى نَحْبَهُ مِنْهَا سَعِيدٌ
فَأَعْوَلَتْ ... عَلَيْهِ مَعَ الشُّمْطِ الْعَذَارَى النَّوَاهِدُ [٩]
[١] أَسْبغ: أكمل وأطول.
[٢]
الأكحل: عرق فِي الذِّرَاع.
[٣]
قَالَ السهيليّ: «حبَان» هُوَ ابْن عبد منَاف بن منقذ بن عَمْرو بن معيص بن عَامر
بن لؤيّ» .
[٤]
العرقة: هِيَ قلَابَة بنت سعد بن سعد بن سهم، وتكنى أم فَاطِمَة، وَسميت العرقة
لطيب رِيحهَا، وَهِي جدة خَدِيجَة، أم أمهَا هَالة. (رَاجع الرَّوْض)
.
[٥]
كَذَا فِي أ. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «قَالَ لعكرمة ... إِلَخ»
.
[٦]
الْآطَام: الْحُصُون والقصور، الْوَاحِد: أَطَم.
[٧]
كَذَا فِي أ. ومرشة: يعْنى رمية أَصَابَته فأطارت رشاش الدَّم مِنْهُ. وَفِي
سَائِر الْأُصُول: «مريشة» .
[٨]
العاند: الْعرق الّذي لَا يَنْقَطِع مِنْهُ الدَّم.
[٩]
النحب: الأَصْل. وأعولت: بَكت بِصَوْت مُرْتَفع. والشمط: جمع شَمْطَاء، وَهِي
الَّتِي خالط شعرهَا الشيب. والعذارى: الْأَبْكَار. والنواهد: جمع ناهد، وَهِي
الَّتِي ظهر نهدها.
وَأَنْتَ الَّذِي دَافَعْتَ عَنْهُ
وَقَدْ دَعَا ... عُبَيْدَةُ جَمْعًا مِنْهُمْ إذْ يُكَابِدُ
عَلَى حِينِ مَا هُمْ جَائِرٌ عَنْ
طَرِيقِهِ ... وَآخَرُ مَرْعُوبٌ عَنْ الْقَصْدِ قَاصِدُ [١]
(وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ أَيَّ ذَلِكَ كَانَ) [٢] .
(قَاتِلُ
سَعْدٍ فِي رَأْيِ ابْنِ هَشَّامٍ):
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُقَالُ:
إنَّ الَّذِي رَمَى سَعْدًا خَفَاجَةُ بْنُ عَاصِمِ بْنِ حِبَّانَ.
(صَفِيَّةُ
وَحَسَّانُ وَمَا ذَكَرَتْهُ عَنْ جُبْنِهِ):
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي
يَحْيَى بْنُ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ أَبِيهِ
عَبَّادٍ قَالَ: كَانَتْ صَفِيَّةُ بِنْتُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فِي فَارِعٍ،
حِصْنُ حَسَّانِ بْنِ ثَابِتٍ، قَالَتْ:
وَكَانَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ
مَعَنَا فِيهِ، مَعَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ. قَالَتْ صَفِيَّةُ، فَمَرَّ بِنَا
رَجُلٌ مِنْ يَهُودَ، فَجَعَلَ يُطِيفُ بِالْحِصْنِ، وَقَدْ حَارَبَتْ بَنُو
قُرَيْظَةَ، وَقَطَعَتْ مَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَلَيْسَ
بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ أَحَدٌ يَدْفَعُ عَنَّا، وَرَسُولُ اللَّهِ ﷺ
وَالْمُسْلِمُونَ فِي نُحُورِ عَدُوِّهِمْ، لَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَنْصَرِفُوا
عَنْهُمْ إلَيْنَا إنْ أَتَانَا آتٍ. قَالَتْ: فَقُلْتُ: يَا حَسَّانُ، إنَّ هَذَا
الْيَهُودِيَّ كَمَا تَرَى يُطِيفُ بِالْحِصْنِ، وَإِنِّي وَاَللَّهِ مَا آمَنُهُ
أَنْ يَدُلَّ عَلَى عَوْرَتِنَا مَنْ وَرَاءَنَا مِنْ يَهُودَ، وَقَدْ شُغِلَ
عَنَّا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَأَصْحَابُهُ، فَانْزِلْ إلَيْهِ فَاقْتُلْهُ، قَالَ:
يَغْفِرُ اللَّهُ لَكَ يَا بْنَةَ
عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَاَللَّهِ لَقَدْ عَرَفْتُ مَا أَنَا بِصَاحِبِ هَذَا:
قَالَتْ:
فَلَمَّا قَالَ لِي ذَلِكَ، وَلَمْ
أَرَ عِنْدَهُ شَيْئًا، احْتَجَزْتُ [٣] ثُمَّ أَخَذْتُ عَمُودًا، ثُمَّ نَزَلْتُ
مِنْ الْحِصْنِ إلَيْهِ، فَضَرَبْتُهُ بِالْعَمُودِ حَتَّى قَتَلْتُهُ. قَالَتْ:
فَلَمَّا فَرَغْتُ مِنْهُ، رَجَعْتُ إلَى الْحِصْنِ، فَقُلْتُ: يَا حَسَّانُ،
انْزِلْ إلَيْهِ فَاسْلُبْهُ، فَإِنَّهُ لَمْ يَمْنَعْنِي مِنْ سَلَبِهِ إلَّا
أَنَّهُ رَجُلٌ، قَالَ: مَا لِي بِسَلَبِهِ مِنْ حَاجَة يَا بنت عَبْدِ
الْمُطَّلِبِ [٤] .
[١] المرعوب: المفزع. قَالَ أَبُو ذَر: من
رَوَاهُ مَرْغُوب، بالغين الْمُعْجَمَة، فَمَعْنَاه: رغب عَن الْقَصْد: أَي تَركه،
وَهُوَ على معنى النّسَب: أَي ذُو رَغْبَة.
[٢]
زِيَادَة عَن أ.
[٣]
احتجزت: شددت وسطى. قَالَ أَبُو ذَر: «وَمن رَوَاهُ: اعتجرت، فَمَعْنَاه: شددت
معجرى» .
[٤]
قَالَ السهيليّ: «ومجمل هَذَا الحَدِيث عِنْد النَّاس على أَن حسان كَانَ جَبَانًا
شَدِيد الْجُبْن. وَقد دفع هَذَا بعض الْعلمَاء وَأنْكرهُ، وَذَلِكَ أَنه حَدِيث
مُنْقَطع الْإِسْنَاد، وَقَالَ: لَو صَحَّ هَذَا لهجي بِهِ حسان، فَإِنَّهُ كَانَ
(شَأْنُ نُعَيْمٍ فِي تَخْذِيلِ
الْمُشْرِكِينَ عَنْ الْمُسْلِمِينَ):
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَأَقَامَ
رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَأَصْحَابُهُ، فِيمَا وَصَفَ اللَّهُ مِنْ الْخَوْفِ
وَالشِّدَّةِ، لِتَظَاهُرِ عَدُوِّهِمْ عَلَيْهِمْ، وَإِتْيَانِهِمْ إيَّاهُمْ
مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْهُمْ.
(قَالَ)
[١]: ثُمَّ إنَّ نُعَيْمَ بْنَ مَسْعُودِ بْنِ عَامِرِ بْنِ أُنَيْفِ بْنِ
ثَعْلَبَةَ بْنِ قُنْفُدِ بْنِ هِلَالِ بْنِ خَلَاوَةَ بْنِ أَشْجَعَ بْنِ رَيْثِ
بْنِ غَطَفَانَ، أَتَى رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنِّي
قَدْ أَسْلَمْتُ، وَإِنَّ قَوْمِي لَمْ يَعْلَمُوا بِإِسْلَامِي، فَمُرْنِي بِمَا
شِئْتُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: إنَّمَا أَنْتُ فِينَا رَجُلٌ وَاحِدٌ،
فَخَذِّلْ عَنَّا [٢] إنْ اسْتَطَعْتُ، فَإِنَّ الْحَرْبَ خُدْعَةٌ. فَخَرَجَ
نُعَيْمُ بْنُ مَسْعُودٍ حَتَّى أَتَى بَنِي قُرَيْظَةَ، وَكَانَ لَهُمْ نَدِيمًا
فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَقَالَ: يَا بَنِي قُرَيْظَةَ، قَدْ عَرَفْتُمْ وُدِّي
إيَّاكُمْ، وَخَاصَّةً مَا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ، قَالُوا: صَدَقْتُ، لَسْتُ
عِنْدَنَا بِمُتَّهَمٍ، فَقَالَ لَهُمْ: إنَّ قُرَيْشًا وَغَطَفَانَ لَيْسُوا كَأَنْتُمْ،
الْبَلَدُ بَلَدُكُمْ، فِيهِ أَمْوَالُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَنِسَاؤُكُمْ، لَا
تَقْدِرُونَ عَلَى أَنْ تَحَوَّلُوا مِنْهُ إلَى غَيْرِهِ، وَإِنَّ قُرَيْشًا
وَغَطَفَانَ قَدْ جَاءُوا لِحَرْبِ مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ، وَقَدْ
ظَاهَرْتُمُوهُمْ عَلَيْهِ، وَبَلَدُهُمْ وَأَمْوَالُهُمْ وَنِسَاؤُهُمْ
بِغَيْرِهِ، فَلَيْسُوا كَأَنْتُمْ، فَإِنْ رَأَوْا نُهْزَةً [٣] أَصَابُوهَا،
وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ لَحِقُوا بِبِلَادِهِمْ وَخَلَّوْا بَيْنَكُمْ
[()] يهاجى الشُّعَرَاء كضرار وَابْن
الزبعري وَغَيرهمَا، وَكَانُوا يناقضونه ويردون عَلَيْهِ، فَمَا عيره أحد مِنْهُم
بجبن، وَلَا وسمه بِهِ، فَدلَّ هَذَا على ضعف حَدِيث ابْن إِسْحَاق، وَإِن صَحَّ
فَلَعَلَّ حسان أَن يكون مُعْتَلًّا فِي ذَلِك الْيَوْم بعلة منعته من شُهُود
الْقِتَال، وَهَذَا أولى مَا تَأَول عَلَيْهِ. وَمِمَّنْ أنكر أَن يكون هَذَا
صَحِيحا أَبُو عمر رحمه الله فِي كتاب الدُّرَر لَهُ.
وعقب على هَذَا الحَدِيث أَبُو ذَر
أَيْضا بِمَا لَا يخرج عَمَّا ذكر السهيليّ.
وَقَالَ الزرقانى بعد مَا سَاق رأى
أَبى عمر فِي الدُّرَر، واستبعاده هَذَا على حسان: «وَإِنَّمَا كَانَ أولى، لِأَن
ابْن إِسْحَاق لم ينْفَرد بِهِ، بل جَاءَ بِسَنَد مُتَّصِل حسن كَمَا علم، فاعتضد
حَدِيثه. وَقد قَالَ ابْن السراج:
سكُوت الشُّعَرَاء عَن تعييره بذلك
من أَعْلَام النُّبُوَّة، لِأَنَّهُ شاعره ﷺ» .
[١]
زِيَادَة عَن أ.
[٢]
خذل عَنَّا: أَدخل بَين الْقَوْم حَتَّى يخذل بَعضهم بَعْضًا.
[٣]
النهزة: انتهاز الشَّيْء واختلاسه.
وَبَيْنَ الرَّجُلِ بِبَلَدِكُمْ،
وَلَا طَاقَةَ لَكُمْ بَهْ إنْ خَلَا بِكُمْ، فَلَا تُقَاتِلُوا مَعَ الْقَوْمِ
حَتَّى تَأْخُذُوا مِنْهُمْ رَهْنًا مِنْ أَشْرَافِهِمْ، يَكُونُونَ بِأَيْدِيكُمْ
ثِقَةً لَكُمْ عَلَى أَنْ تُقَاتِلُوا مَعَهُمْ مُحَمَّدًا حَتَّى تُنَاجِزُوهُ،
فَقَالُوا لَهُ: لَقَدْ أَشَرْتُ بِالرَّأْيِ.
ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى أَتَى
قُرَيْشًا، فَقَالَ لِأَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ رِجَالِ
قُرَيْشٍ: قَدْ عَرَفْتُمْ وُدِّي لَكُمْ وَفِرَاقِي مُحَمَّدًا، وَإِنَّهُ قَدْ
بَلَغَنِي أَمْرٌ قَدْ رَأَيْتُ عَلَيَّ حَقًّا أَنْ أُبْلِغَكُمُوهُ، نُصْحًا
لَكُمْ، فَاكْتُمُوا عَنِّي، فَقَالُوا: نَفْعَلُ، قَالَ: تَعْلَمُوا أَنَّ
مَعْشَرَ يَهُودَ قَدْ نَدِمُوا عَلَى مَا صَنَعُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ
مُحَمَّدٍ، وَقَدْ أَرْسَلُوا إلَيْهِ:
إنَّا قَدْ نَدِمْنَا عَلَى مَا
فَعَلْنَا، فَهَلْ يُرْضِيكَ أَنْ نَأْخُذَ لَكَ مِنْ الْقَبِيلَتَيْنِ، مِنْ
قُرَيْشٍ وَغَطَفَانَ رِجَالًا مِنْ أَشْرَافِهِمْ فَنُعْطِيكَهُمْ، فَتَضْرِبَ
أَعْنَاقَهُمْ ثُمَّ نَكُونُ مَعَكَ عَلَى مَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ حَتَّى نَسْتَأْصِلَهُمْ؟
فَأَرْسَلَ إلَيْهِمْ: أَنْ نَعَمْ. فَإِنْ بَعَثَتْ إلَيْكُمْ يَهُودُ
يَلْتَمِسُونَ مِنْكُمْ رَهْنًا مِنْ رِجَالِكُمْ فَلَا تَدْفَعُوا إلَيْهِمْ
مِنْكُمْ رَجُلًا وَاحِدًا.
ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى أَتَى
غَطَفَانَ، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ غَطَفَانَ، إنَّكُمْ أَصْلِي وَعَشِيرَتِي،
وَأَحَبُّ النَّاسِ إلَيَّ، وَلَا أَرَاكُمْ تَتَّهِمُونِي، قَالُوا: صَدَقْتُ،
مَا أَنْتَ عِنْدَنَا بِمُتَّهَمٍ، قَالَ: فَاكْتُمُوا عَنِّي، قَالُوا: نَفْعَلُ،
فَمَا أَمْرُكَ؟ [١]، ثُمَّ قَالَ لَهُمْ مِثْلَ مَا قَالَ لِقُرَيْشِ
وَحَذَّرَهُمْ مَا حَذَّرَهُمْ.
(دَبِيبُ
الْفُرْقَةِ بَيْنَ الْمُشْرِكِينَ):
فَلَمَّا كَانَتْ لَيْلَةُ السَّبْتِ
مِنْ شَوَّالٍ سَنَةَ خَمْسٍ، وَكَانَ مِنْ صُنْعِ اللَّهِ لِرَسُولِهِ ﷺ أَنْ [٢]
أَرْسَلَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ وَرُءُوسُ غَطَفَانَ إلَى بَنِي قُرَيْظَةَ
عِكْرِمَةَ بْنَ أَبِي جَهْلٍ، فِي نَفَرٍ مِنْ قُرَيْشٍ وَغَطَفَانَ، فَقَالُوا
لَهُمْ: إنَّا لَسْنَا بِدَارِ مُقَامٍ، قَدْ هَلَكَ الْخُفُّ وَالْحَافِرُ [٣]،
فَاغْدُوَا لِلْقِتَالِ حَتَّى نُنَاجِزَ مُحَمَّدًا، وَنَفْرُغَ مِمَّا بَيْنَنَا
وَبَيْنَهُ، فَأَرْسَلُوا إلَيْهِمْ: إنَّ الْيَوْمَ يَوْمُ السَّبْتِ، وَهُوَ (يَوْمٌ)
[٤] لَا نَعْمَلُ فِيهِ
[١] هَذِه الْعبارَة «فَمَا أَمرك» سَاقِطَة
فِي أ.
[٢]
فِي أ: «أَنه» .
[٣]
يُرِيد «بالخف»: الْإِبِل، و«بالحافر»: الْخَيل.
[٤]
زِيَادَة عَن أ.
شَيْئًا، وَقَدْ كَانَ أَحْدَثَ
فِيهِ بَعْضُنَا حَدَثًا، فَأَصَابَهُ مَا لَمْ يَخْفَ عَلَيْكُمْ، وَلَسْنَا مَعَ
ذَلِكَ بِاَلَّذِينَ نُقَاتِلُ مَعَكُمْ مُحَمَّدًا حَتَّى تُعْطُونَا رَهْنًا
مِنْ رِجَالِكُمْ، يَكُونُونَ بِأَيْدِينَا ثِقَةً لَنَا حَتَّى نُنَاجِزَ
مُحَمَّدًا، فَإِنَّا نَخْشَى إنَّ ضَرَّسَتْكُمْ [١] الْحَرْبُ، وَاشْتَدَّ
عَلَيْكُمْ الْقِتَال أَن تنشروا [٢] إلَى بِلَادِكُمْ وَتَتْرُكُونَا،
وَالرَّجُلَ فِي بَلَدِنَا، وَلَا طَاقَةَ لَنَا بِذَلِكَ مِنْهُ.
فَلَمَّا رَجَعَتْ إلَيْهِمْ
الرُّسُلُ بِمَا قَالَتْ بَنُو قُرَيْظَةَ، قَالَتْ قُرَيْشٌ وَغَطَفَانُ:
وَاَللَّهِ إنَّ الَّذِي حَدَّثَكُمْ نُعَيْمُ بْنُ مَسْعُودٍ لَحَقٌّ،
فَأَرْسِلُوا بَنِي قُرَيْظَةَ: إنَّا وَاَللَّهِ لَا نَدْفَعُ إلَيْكُمْ رَجُلًا
وَاحِدًا مِنْ رِجَالِنَا، فَإِنْ كُنْتُمْ تُرِيدُونَ الْقِتَالَ فَاخْرُجُوا
فَقَاتِلُوا، فَقَالَتْ بَنُو قُرَيْظَةَ، حِينَ انْتَهَتْ الرُّسُلُ إلَيْهِمْ
بِهَذَا: إنَّ الَّذِي ذَكَرَ لَكُمْ نُعَيْمُ بْنُ مَسْعُودٍ لَحَقٌّ، مَا
يُرِيدُ الْقَوْمُ إلَّا أَنْ يُقَاتِلُوا، فَإِنْ رَأَوْا فُرْصَةً
انْتَهَزُوهَا، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ انْشَمَرُوا إلَى بِلَادِهِمْ.
وَخَلَّوْا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الرَّجُلِ فِي بَلَدِكُمْ، فَأَرْسِلُوا إلَى
قُرَيْشٍ وَغَطَفَانَ: إنَّا وَاَللَّهِ لَا نُقَاتِلُ مَعَكُمْ مُحَمَّدًا [٣] حَتَّى
تُعْطُونَا رَهْنًا، فَأَبَوْا عَلَيْهِمْ، وَخَذَّلَ اللَّهُ بَيْنَهُمْ،
وَبَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ الرِّيحَ فِي لَيَالٍ شَاتِيَةٍ بَارِدَةٍ شَدِيدَةِ
الْبَرْدِ، فَجَعَلَتْ تَكْفَأُ قُدُورَهُمْ [٤]، وَتَطْرَحُ أَبْنِيَتَهُمْ [٥]
.
(أَرْسَلَ
الرَّسُولُ حُذَيْفَةَ لِيَتَعَرَّفَ مَا حَلَّ بِالْمُشْرِكِينَ):
(قَالَ)
[٦]: فَلَمَّا انْتَهَى إلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ مَا اخْتَلَفَ مِنْ أَمْرِهِمْ،
وَمَا فَرَّقَ اللَّهُ مِنْ جَمَاعَتِهِمْ، دَعَا حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ،
فَبَعَثَهُ إلَيْهِمْ، لِيَنْظُرَ مَا فَعَلَ الْقَوْمُ لَيْلًا.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي
يَزِيدُ بْنُ زِيَادٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ، قَالَ:
قَالَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ
لِحُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، أَرَأَيْتُمْ رَسُولَ
اللَّهِ ﷺ وَصَحِبْتُمُوهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، يَا بن أَخِي، قَالَ: فَكَيْفَ
كُنْتُمْ تَصْنَعُونَ؟
[١] ضرستكم الْحَرْب: نَالَتْ مِنْكُم، كَمَا
يُصِيب ذُو الأضراس بأضراسه.
[٢]
أَن تنشمروا: أَن تنقبضوا وتسرعوا إِلَى بِلَادكُمْ.
[٣]
هَذِه الْكَلِمَة «مُحَمَّدًا» سَاقِطَة فِي أ.
[٤]
تكفأ قدورهم: تميلها وَتَقَلُّبهَا.
[٥]
كَذَا فِي أ. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «آنيتهم» .
[٦]
زِيَادَة عَن أ.
قَالَ: وَاَللَّهِ لَقَدْ كُنَّا
نَجْهَدُ، قَالَ: فَقَالَ: وَاَللَّهِ لَوْ أَدْرَكْنَاهُ مَا تَرَكْنَاهُ يَمْشِي
عَلَى الْأَرْضِ وَلَحَمَلْنَاهُ عَلَى أَعْنَاقِنَا. قَالَ: فَقَالَ حُذَيْفَةُ:
يَا بن أَخِي، وَاَللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ
بِالْخَنْدَقِ، وَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ هُوِيًّا [١] مِنْ اللَّيْلِ، ثُمَّ
الْتَفَتَ إلَيْنَا فَقَالَ: مَنْ رَجُلٌ يَقُومُ فَيَنْظُرُ لَنَا مَا فَعَلَ
الْقَوْمُ ثُمَّ يَرْجِعُ- يَشْرِطُ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ الرَّجْعَةَ- أَسْأَلُ
اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَكُونَ رَفِيقِي فِي الْجَنَّةِ؟ فَمَا قَامَ [٢] رَجُلٌ
مِنْ الْقَوْمِ، مِنْ شِدَّةِ الْخَوْفِ، وَشِدَّةِ الْجُوعِ، وَشِدَّةِ
الْبَرْدِ، فَلَمَّا لَمْ يَقُمْ أَحَدٌ، دَعَانِي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، فَلَمْ
يَكُنْ لِي بُدٌّ مِنْ الْقِيَامِ حِينَ دَعَانِي، فَقَالَ: يَا حُذَيْفَةُ،
اذْهَبْ فَادْخُلْ فِي الْقَوْمِ، فَانْظُرْ مَاذَا يَصْنَعُونَ [٣]، وَلَا
تُحْدِثَنَّ شَيْئًا حَتَّى تَأْتِيَنَا. قَالَ: فَذَهَبْتُ فَدَخَلْتُ فِي
الْقَوْمِ وَالرِّيحُ وَجُنُودُ اللَّهِ تَفْعَلُ بِهِمْ مَا تَفْعَلُ، لَا
تُقِرُّ لَهُمْ قِدْرًا وَلَا نَارًا وَلَا بِنَاءً. فَقَامَ أَبُو سُفْيَانَ،
فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ: لِيَنْظُرْ امْرُؤٌ مَنْ جَلِيسُهُ؟ قَالَ
حُذَيْفَةُ: فَأَخَذْتُ بِيَدِ الرَّجُلِ الَّذِي كَانَ إلَى جَنْبِي، فَقُلْتُ:
مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ [٤] .
(مُنَادَاةُ
أَبَى سُفْيَانَ فِيهِمْ بِالرَّحِيلِ):
ثُمَّ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: يَا
مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، إنَّكُمْ وَاَللَّهِ مَا أَصْبَحْتُمْ بِدَارِ مُقَامٍ، لَقَدْ
هَلَكَ الْكُرَاعُ [٥] وَالْخُفُّ، وَأَخْلَفَتْنَا بَنُو قُرَيْظَةَ، وَبَلَغَنَا
عَنْهُمْ الَّذِي نَكْرَهُ، وَلَقِينَا مِنْ شِدَّةِ الرِّيحِ مَا تَرَوْنَ، مَا
تَطْمَئِنُّ لَنَا قِدْرٌ، وَلَا تَقُومُ لَنَا نَارٌ، وَلَا يَسْتَمْسِكُ لَنَا
بِنَاءٌ، فَارْتَحِلُوا فَإِنِّي مُرْتَحِلٌ، ثُمَّ قَامَ إلَى جَمَلِهِ وَهُوَ
مَعْقُولٌ، فَجَلَسَ عَلَيْهِ، ثُمَّ ضَرَبَهُ، فَوَثَبَ بِهِ على ثَلَاث، فو الله
مَا أَطْلَقَ عِقَالَهُ إلَّا وَهُوَ قَائِمٌ، وَلَوْلَا عَهْدُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ
إلَيَّ «أَنْ لَا تُحْدِثَ شَيْئًا حَتَّى تَأْتِيَنِي»، ثُمَّ شِئْتُ،
لَقَتَلْتُهُ بِسَهْمِ.
[١] هويا من اللَّيْل (بِفَتْح الْهَاء
وَضمّهَا): قِطْعَة مِنْهُ.
[٢]
كَذَا فِي أ. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «قَالَ» .
[٣]
فِي أ: «يَفْعَلُونَ» .
[٤]
فِي شرح الْمَوَاهِب: «فَضربت بيَدي على يَد الّذي عَن يَمِيني، فَأخذت بِيَدِهِ،
فَقلت: من أَنْت؟
قَالَ: مُعَاوِيَة بن أَبى سُفْيَان،
ثمَّ ضربت بيَدي على يَد الّذي عَن شمَالي، فَقلت: من أَنْت؟ قَالَ: عَمْرو ابْن
الْعَاصِ» .
[٥]
الكراع: الْخَيل.
(رُجُوعُ حُذَيْفَةَ إلَى الرَّسُولِ
بِتَخَاذُلِ الْمُشْرِكِينَ وَانْصِرَافِهِمْ):
قَالَ حُذَيْفَةُ: فَرَجَعْتُ إلَى
رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي مِرْطٍ [١] لِبَعْضِ نِسَائِهِ،
مَرَاجِلُ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: الْمَرَاجِلُ:
ضَرْبٌ مِنْ وَشَى الْيَمَنِ.
فَلَمَّا رَآنِي أَدْخَلَنِي إلَى
رِجْلَيْهِ، وَطَرَحَ عَلَيَّ طَرَفَ الْمِرْطِ، ثُمَّ رَكَعَ وَسَجَدَ، وَإِنِّي
لِفِيهِ، فَلَمَّا سَلَّمَ أَخْبَرْتُهُ الْخَبَرَ، وَسَمِعَتْ غَطَفَانُ بِمَا
فَعَلَتْ قُرَيْشٌ، فَانْشَمَرُوا رَاجِعِينَ إلَى بِلَادِهِمْ.
(انْصِرَافُ
الرَّسُولِ عَنْ الْخَنْدَقِ):
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَلَمَّا
أَصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ انْصَرَفَ عَنْ الْخَنْدَقِ رَاجِعًا إلَى
الْمَدِينَةِ [٢] وَالْمُسْلِمُونَ، وَوَضَعُوا السِّلَاحَ.