recent
آخر المقالات

غَزْوَةُ تَبُوكَ فِي رَجَبٍ سَنَةَ تِسْعٍ


(
أَمْرُ الرَّسُولِ النَّاسَ بِالتَّهَيُّؤِ لِتَبُوكَ):
قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنِ هِشَامٍ، قَالَ زِيَادُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْبَكَّائِيَّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إسْحَاقَ الْمُطَّلِبِيِّ، قَالَ: ثُمَّ أَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِالْمَدِينَةِ مَا بَيْنَ


[١] المعاقل: جمع معقل، وَهُوَ الْموضع الْمُمْتَنع. والأعفار: جمع عفر، وَهُوَ ولد الوعل، وَيضْرب الْمثل بامتناع أَوْلَاد الوعول فِي قلل الْجبَال.
[٢] عليا: يُرِيد على بن مَسْعُود بن مَازِن الغساني، وَإِلَيْهِ تنْسب بَنو كنَانَة، لِأَنَّهُ كفل ولد أَخِيه عبد مَنَاة بن كنَانَة بعد وَفَاته، فنسبوا إِلَيْهِ.
[٣] أمارى: أجادل.
[٤] خوت النُّجُوم: أَي سَقَطت وَلم تمطر فِي نوئها. والطارقون: الَّذين يأْتونَ بِاللَّيْلِ. والمقاري:
جمع مقراة، وَهِي الْجَفْنَة الَّتِي يصنع فِيهَا الطَّعَام للأضياف. يُرِيد أَنهم إِذا انحبس الْمَطَر، وَاشْتَدَّ الزَّمَان، وَعم الْقَحْط، يكونُونَ أَصْحَاب قصاع لقرى للأضياف الَّذين يطرقونهم، وينزلون بهَا.
[٥] هَذَا الْبَيْت سَاقِط من (أ) .
[٦] إِلَى هُنَا ينتهى الْجُزْء السَّابِع عشر من أَجزَاء السِّيرَة.

ذِي الْحَجَّةِ إلَى رَجَبٍ، ثُمَّ أَمَرَ النَّاسَ بِالتَّهَيُّؤِ لِغَزْوِ الرُّومِ. وَقَدْ ذَكَرَ لَنَا الزُّهْرِيُّ وَيَزِيدُ بْنُ رُومَانَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ وَعَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، وَغَيْرُهُمْ مِنْ عُلَمَائِنَا، كُلٌّ حَدَّثَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ مَا بَلَغَهُ عَنْهَا، وَبَعْضُ الْقَوْمِ يُحَدِّثُ مَا لَا يُحَدِّثُ بَعْضٌ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ أَمَرَ أَصْحَابَهُ بِالتَّهَيُّؤِ لِغَزْوِ الرُّومِ، وَذَلِكَ فِي زَمَانٍ مِنْ عُسْرَةِ النَّاسِ، وَشِدَّةٍ مِنْ الْحَرِّ، وَجَدْبٍ مِنْ الْبِلَادِ: وَحِينَ طَابَتْ الثِّمَارُ، وَالنَّاسُ يُحِبُّونَ الْمُقَامَ فِي ثِمَارِهِمْ وَظِلَالِهِمْ، وَيَكْرَهُونَ الشُّخُوصَ عَلَى الْحَالِ مِنْ الزَّمَانِ الَّذِي هُمْ عَلَيْهِ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ قَلَّمَا يَخْرُجُ فِي غَزْوَةٍ إلَّا كَنَّى عَنْهَا، وَأَخْبَرَ أَنَّهُ يُرِيدُ غَيْرَ الْوَجْهِ الَّذِي يَصْمُدُ لَهُ [١]، إلَّا مَا كَانَ مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ، فَإِنَّهُ بَيَّنَهَا لِلنَّاسِ، لِبُعْدِ الشُّقَّةِ [٢]، وَشِدَّةِ الزَّمَانِ، وَكَثْرَةِ الْعَدُوِّ الَّذِي يَصْمُدُ لَهُ، لِيَتَأَهَّبَ النَّاسُ لِذَلِكَ أُهْبَتَهُ، فَأَمَرَ النَّاسَ بِالْجِهَازِ، وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ يُرِيدُ الرُّومَ.

(تَخَلِّفَ الْجَدِّ وَمَا نَزَلَ فِيهِ):
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ذَاتَ يَوْمٍ وَهُوَ فِي جِهَازِهِ ذَلِكَ لِلْجَدِّ بْنِ قِيسٍ أَحَدِ بَنِي سَلِمَةَ: يَا جَدُّ، هَلْ لَكَ الْعَامَ فِي جِلَادِ بَنِي الْأَصْفَرِ [٣]؟ فَقَالَ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَوْ تَأْذَنُ لِي وَلَا تفتّنى؟ فو الله لَقَدْ عَرَفَ قَوْمِي أَنَّهُ مَا مِنْ رَجُلٍ بِأَشَدَّ عُجْبًا بِالنِّسَاءِ مِنِّي، وَإِنِّي أَخْشَى إنْ رَأَيْتَ نِسَاءَ بَنِي الْأَصْفَرِ أَنْ لَا أَصْبِرَ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَقَالَ: قَدْ أَذِنْتُ لَكَ. فَفِي الْجَدِّ بْنِ قِيسٍ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي، أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا، وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ ٩: ٤٩. أَيْ إنْ كَانَ إنَّمَا خَشَى الْفِتْنَةَ مِنْ نِسَاءِ بَنِي الْأَصْفَرِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِهِ، فَمَا سَقَطَ فِيهِ مِنْ الْفِتْنَةِ أَكْبَرُ، بِتَخَلُّفِهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَالرَّغْبَةُ بِنَفْسِهِ عَنْ نَفْسِهِ، يَقُولُ تَعَالَى: وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمِنْ وَرَائِهِ.


[١] يصمد: يقْصد.
[٢] الشقة: بعد الْمسير.
[٣] بنى الْأَصْفَر: يُرِيد الرّوم.

(مَا نَزَلَ فِي الْقَوْمِ الْمُثَبِّطِينَ):
وَقَالَ قَوْمٌ مِنْ الْمُنَافِقِينَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضِ: لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ، زَهَادَةٌ فِي الْجِهَادِ، وَشَكًّا فِي الْحَقِّ، وَإِرْجَافًا بِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تبارك وتعالى فِيهِمْ: وَقالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ، قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ، فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا، جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ ٩: ٨١- ٨٢.

(تَحْرِيقُ بَيْتِ سُوَيْلِمٍ وَشِعْرُ الضَّحَّاكِ فِي ذَلِكَ):
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَحَدَّثَنِي الثِّقَةُ عَمَّنْ حَدَّثَهُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ إسْحَاقَ بْنِ إبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَارِثَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: بَلَغَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، أَنَّ نَاسًا مِنْ الْمُنَافِقِينَ يَجْتَمِعُونَ فِي بَيْتِ سُوَيْلِمٍ الْيَهُودِيِّ، وَكَانَ بَيْتُهُ عِنْد جاسوم [١]، يشبّطون النَّاسَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، فَبَعَثَ إلَيْهِمْ النَّبِيُّ ﷺ طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يُحَرِّقَ عَلَيْهِمْ بَيْتَ سُوَيْلِمٍ، فَفَعَلَ طَلْحَةُ. فَاقْتَحَمَ الضَّحَّاكُ بْنُ خَلِيفَةَ مِنْ ظَهْرِ الْبَيْتِ، فَانْكَسَرَتْ رِجْلُهُ، وَاقْتَحَمَ أَصْحَابُهُ، فَأَفْلَتُوا.
فَقَالَ الضَّحَّاكُ فِي ذَلِكَ:
كَادَتْ وَبَيْتِ اللَّهِ نَارُ مُحَمَّدٍ ... يَشِيطُ بِهَا الضَّحَّاكُ وَابْنُ أُبَيْرِقِ [٢]
وَظَلْتُ وَقَدْ طَبَّقْتُ كِبْسَ سُوَيْلِمٍ ... أَنَوْءُ عَلَى رِجْلِي كَسِيرًا وَمِرْفَقَى [٣]
سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا أَعُودُ لِمِثْلِهَا ... أَخَافُ وَمَنْ تَشْمَلْ بِهِ النَّارُ يُحْرَقُ

(حَثُّ الرَّسُولِ عَلَى النَّفَقَةِ وَشَأْنُ عُثْمَانَ فِي ذَلِكَ):
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: ثُمَّ إنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ جَدَّ فِي سَفَرِهِ، وَأَمَرَ النَّاسَ بالجهاز والانكماش، وحضّ أَهْلَ الْغِنَى عَلَى النَّفَقَةِ وَالْحُمْلَانِ [٤] فِي سَبِيلِ


[١] جاسوم: اسْم مَوضِع.
[٢] يشيط،: يَحْتَرِق.
[٣] طبقت: عَلَوْت. والكبس (بِكَسْر الْكَاف): الْبَيْت الصَّغِير.
[٤] الحملان: مصدر حمل يحمل، وَقد يُرَاد بِهِ: مَا يحمل عَلَيْهِ من الدَّوَابّ (انْظُر اللِّسَان) .

اللَّهِ، فَحَمَلَ رِجَالٌ مِنْ أَهْلِ الْغِنَى وَاحْتَسَبُوا [١]، وَأَنْفَقَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ فِي ذَلِكَ نَفَقَةً عَظِيمَةً، لَمْ يُنْفِقْ أَحَدٌ مِثْلَهَا.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: حَدَّثَنِي مَنْ أَثِقُ بِهِ: أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ أَنْفَقَ فِي جَيْشِ الْعُسْرَةِ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ أَلْفَ دِينَارٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: اللَّهمّ ارْضَ عَنْ عُثْمَانَ، فَإِنِّي عَنْهُ رَاض.

(شَأْن البكاءين):
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: ثُمَّ إنَّ رِجَالًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، وَهُمْ الْبَكَّاءُونَ، وَهُمْ سَبْعَةُ نَفَرٍ مِنْ الْأَنْصَارِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ: سَالِمُ ابْن عُمَيْرٍ، وَعُلْبَةُ بْنُ زَيْدٍ، أَخُو بَنِي حَارِثَةَ، وَأَبُو لَيْلَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ كَعْبٍ، أَخُو بَنِي مَازِنِ بْنِ النَّجَّارِ، وَعَمْرُو بْنُ حُمَامِ بْنِ الْجَمُوحِ، أَخُو بَنِي سَلِمَةَ، وَعَبْدُ اللَّهِ ابْن الْمُغَفَّلِ الْمُزَنِيُّ- وَبَعْضُ النَّاسِ يَقُولُ: بَلْ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو الْمُزَنِيُّ- وَهَرَمِيُّ ابْن عَبْدِ اللَّهِ، أَخُو بَنِي وَاقِفٍ، وَعِرْبَاضُ بْنُ سَارِيَةَ الْفَزَارِيُّ. فَاسْتَحْمَلُوا [٢] رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، وَكَانُوا أَهْلَ حَاجَةِ، فَقَالَ: لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ، فَتَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنْ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ [٣] . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَبَلَغَنِي أَنَّ ابْنَ يَامِينَ بْنِ عُمَيْرِ [٤] بْنِ كَعْب النّضرى لفي أَبَا لَيْلَى عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ كَعْبٍ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُغَفَّلٍ وَهُمَا يَبْكِيَانِ، فَقَالَ: مَا يُبْكِيكُمَا؟
قَالَا: جِئْنَا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ لِيَحْمِلَنَا، فَلَمْ نَجِدْ عِنْدَهُ مَا يَحْمِلُنَا عَلَيْهِ، وَلَيْسَ عِنْدَنَا مَا نَتَقَوَّى بِهِ عَلَى الْخُرُوجِ مَعَهُ، فَأَعْطَاهُمَا نَاضِحًا [٥] لَهُ، فارتحلاه، وزوّدهما شَيْئًا مِنْ تَمْرٍ، فَخَرَجَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ.

(شَأْنُ الْمُعَذِّرِينَ):
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَجَاءَهُ الْمُعَذِّرُونَ مِنْ الْأَعْرَابِ، فَاعْتَذَرُوا إلَيْهِ، فَلَمْ يَعْذِرْهُمْ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَدْ ذُكِرَ لِي أَنَّهُمْ نَفَرٌ مِنْ بَنِي غِفَارٍ.


[١] احتسبوا: أخرجُوا ذَلِك حسبَة، أَي جعلُوا أجر مَا بذلوا عِنْد الله.
[٢] استحملوه: طلبُوا مِنْهُ مَا يحملهم عَلَيْهِ.
[٣] فِي تَسْمِيَة بعض البكاءين خلاف فَليُرَاجع فِي شرح الزرقانى على الْمَوَاهِب اللدنية.
[٤] فِي الزرقانى على الْمَوَاهِب اللدنية: «لَقِي يَامِين بن عَمْرو» .
[٥] الناضح: الْجمل الّذي يستقى عَلَيْهِ المَاء.

(تَخَلُّفُ نَفَرٍ عَنْ غَيْرِ شَكٍّ):
ثُمَّ اسْتَتَبَّ [١] بِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ سَفَرُهُ، وَأَجْمَعَ السَّيْرَ، وَقَدْ كَانَ نَفَرٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَبْطَأَتْ بِهِمْ النِّيَّةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، حَتَّى تَخَلَّفُوا عَنْهُ، عَنْ غَيْرِ شَكٍّ وَلَا ارْتِيَابٍ، مِنْهُمْ: كَعْبُ بْنُ مَالِكِ بْنِ أَبِي كَعْبٍ، أَخُو بَنِي سَلِمَةَ وَمُرَارَةُ بْنُ الرَّبِيعِ، أَخُو بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، وَهِلَالُ بْنُ أُمَيَّةَ، أَخُو بَنِي وَاقِفٍ، وَأَبُو خَيْثَمَةَ، أَخُو بَنِي سَالِمِ بْنِ عَوْفٍ. وَكَانُوا نَفَرَ صِدْقٍ، لَا يُتَّهَمُونَ فِي إسْلَامِهِمْ.

(خُرُوجُ الرَّسُولِ وَاسْتِعْمَالُهُ عَلَى الْمَدِينَةِ):
فَلَمَّا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ضَرَبَ عَسْكَرَهُ عَلَى ثَنِيَّةِ الْوَدَاعِ [٢] .
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَاسْتَعْمَلَ عَلَى الْمَدِينَةِ مُحَمَّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ الْأَنْصَارِيَّ.
وَذَكَرَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ الدَّرَاوَرْدِيِّ [٣] عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ اسْتَعْمَلَ عَلَى الْمَدِينَةِ، مَخْرَجَهُ إلَى تَبُوكَ، سِبَاعَ بْنَ عُرْفُطَةَ.

(تَخَلُّفُ الْمُنَافِقِينَ):
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَضَرَبَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ مَعَهُ عَلَى حِدَةٍ عَسْكَرَهُ أَسْفَلَ مِنْهُ، نَحْوَ ذُبَابٍ [٤]، وَكَانَ فِيمَا يَزْعُمُونَ لَيْسَ بِأَقَلَّ الْعَسْكَرَيْنِ. فَلَمَّا سَارَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ تَخَلَّفَ عَنْهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ، فِيمَنْ تَخَلَّفَ مِنْ الْمُنَافِقِينَ وَأَهْلِ الرَّيْبِ.

(شَأْنُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ):
وَخَلَّفَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ، عَلَى أَهْلِهِ، وَأَمَرَهُ بِالْإِقَامَةِ فِيهِمْ، فَأَرْجَفَ بِهِ الْمُنَافِقُونَ، وَقَالُوا: مَا خَلَّفَهُ إلَّا اسْتِثْقَالًا لَهُ، وَتَخَفُّفًا مِنْهُ. فَلَمَّا قَالَ ذَلِكَ الْمُنَافِقُونَ، أَخَذَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ سِلَاحَهُ، ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى أَتَى رَسُولَ اللَّهِ ﷺ وَهُوَ نَازِلٌ بِالْجُرْفِ [٥]، فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، زَعَمَ الْمُنَافِقُونَ أَنَّكَ إنَّمَا خَلَّفَتْنِي أَنَّكَ اسْتَثْقَلْتنِي


[١] استتب: تتَابع وَاسْتمرّ.
[٢] ثنية الْوَدَاع: ثنية مشرفة على الْمَدِينَة، يَطَؤُهَا من يُرِيد مَكَّة.
[٣] فِي أ: «الأندر أَو ردى» وَهِي رِوَايَة فِيهِ، وَالْمَشْهُور مَا أَثْبَتْنَاهُ. (رَاجع شرح أبي ذَر) .
[٤] ذُبَاب: (بِالْكَسْرِ وَالضَّم): جبل الْمَدِينَة.
[٥] الجرف: «بِالضَّمِّ ثمَّ السّكُون): مَوضِع على ثَلَاثَة أَمْيَال من الْمَدِينَة.

وَتَخَفَّفَتْ مِنِّي، فَقَالَ: كَذَبُوا، وَلَكِنَّنِي خَلَّفْتُكَ لِمَا تَرَكْتُ وَرَائِي، فَارْجِعْ فَاخْلُفْنِي فِي أَهْلِي وَأَهْلِكَ، أَفَلَا تَرْضَى يَا عَلِيُّ أَنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى؟
إلَّا أَنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي، فَرَجَعَ عَلَيَّ إلَى الْمَدِينَةِ، وَمَضَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَلَى سَفَرِهِ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ طَلْحَةَ بْنِ يَزِيدَ بْنِ رُكَانَةَ، عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، عَنْ أَبِيهِ سَعْدٍ: أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ لِعَلِيٍّ هَذِهِ الْمَقَالَةَ.

(شَأْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ):
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: ثُمَّ رَجَعَ عَلِيٌّ إلَى الْمَدِينَةِ، وَمَضَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَلَى سَفَرِهِ، ثُمَّ إنَّ أَبَا خَيْثَمَةَ رَجَعَ بَعْدَ أَنْ سَارَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَيَّامًا إلَى أَهْلِهِ فِي يَوْمٍ حَارٍّ، فَوَجَدَ امْرَأَتَيْنِ لَهُ فِي عَرِيشَيْنِ [١] لَهُمَا فِي حَائِطِهِ [٢]، قَدْ رَشَّتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عَرِيشَهَا، وَبَرَّدَتْ لَهُ فِيهِ مَاءً، وَهَيَّأَتْ لَهُ فِيهِ طَعَامًا.
فَلَمَّا دَخَلَ، قَامَ عَلَى بَابِ الْعَرِيشِ، فَنَظَرَ إلَى امْرَأَتَيْهِ وَمَا صَنَعَتَا لَهُ، فَقَالَ: رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِي الضِّحِّ [٣] وَالرِّيحِ وَالْحَرِّ، وَأَبُو خَيْثَمَةَ فِي ظِلٍّ بَارِدٍ، وَطَعَامٍ مُهَيَّأٍ، وَامْرَأَةٍ حَسْنَاءَ، فِي مَالِهِ مُقِيمٌ، مَا هَذَا بِالنَّصَفِ! ثُمَّ قَالَ: وَاَللَّهِ لَا أَدْخُلُ عَرِيشَ وَاحِدَةٍ مِنْكُمَا حَتَّى أَلْحَقَ بِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَهَيِّئَا، لِي زَادًا، فَفَعَلَتَا. ثُمَّ قَدَّمَ نَاضِحَهُ فَارْتَحَلَهُ، ثُمَّ خَرَجَ فِي طَلَبِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ حَتَّى أَدْرَكَهُ حِينَ نَزَلَ تَبُوكَ. وَقَدْ كَانَ أَدْرَكَ أَبَا خَيْثَمَةَ عُمَيْرَ بْنَ وَهْبٍ الْجُمَحِيَّ فِي الطَّرِيقِ، يَطْلُبُ رَسُول الله ﷺ، فترفقا، حَتَّى إذَا دَنَوَا مِنْ تَبُوكَ. قَالَ أَبُو خَيْثَمَةَ لِعُمَيْرِ بْنِ وَهْبٍ: إنَّ لِي ذَنْبًا، فَلَا عَلَيْكَ أَنْ تَخَلَّفَ عَنِّي حَتَّى آتِيَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَفَعَلَ حَتَّى إذَا دَنَا. مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَهُوَ نَازِلٌ بِتَبُوكَ، قَالَ النَّاسُ: هَذَا رَاكِبٌ



[١] الْعَريش: شَبيه بالخيمة، يظلل ليَكُون أبرد الأخبية والبيوت.
[٢] الْحَائِط: الْبُسْتَان.
[٣] الضح: (بِالْكَسْرِ): الشَّمْس.

عَلَى الطَّرِيقِ مُقْبِلٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: كُنْ أَبَا خَيْثَمَةَ، فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ هُوَ وَاَللَّهِ أَبُو خَيْثَمَةَ. فَلَمَّا أَنَاخَ أَقْبَلَ فَسَلَّمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: أَوْلَى لَكَ [١] يَا أَبَا خَيْثَمَةَ. ثُمَّ أَخْبَرَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ الْخَبَرَ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ خَيْرًا، وَدَعَا لَهُ بِخَيْرِ. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَقَالَ أَبُو خَيْثَمَةَ فِي ذَلِكَ شِعْرًا [٢]، وَاسْمُهُ مَالِكُ بْنُ قَيْسٍ:
لَمَّا رَأَيْتُ النَّاسَ فِي الدِّينِ نَافَقُوا ... أَتَيْتُ الَّتِي كَانَتْ أَعَفَّ وَأَكْرَمَا
وَبَايَعْتُ بِالْيُمْنَى يَدِي لِمُحَمَّدٍ ... فَلَمْ أَكْتَسِبْ إثْمًا وَلَمْ أَغْشَ مَحْرَمًا
تَرَكْتُ خَضِيبًا فِي الْعَرِيشِ وَصِرْمَةً ... صفايا كِرَامًا بُسْرُهَا قَدْ تَحَمَّمَا [٣]
وَكُنْتُ إذَا شَكَّ الْمُنَافِقُ أَسْمَحَتْ ... إلَى الدِّينِ نَفْسِي شَطْرَهُ حَيْثُ يَمَّمَا [٤]

(النَّبِيُّ وَالْمُسْلِمُونَ بِالْحِجْرِ):
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ حِينَ مَرَّ بِالْحِجْرِ نَزَلَهَا، وَاسْتَقَى النَّاسُ مِنْ بِئْرِهَا. فَلَمَّا رَاحُوا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: لَا تَشْرَبُوا مِنْ مَائِهَا شَيْئًا، وَلَا تَتَوَضَّئُوا مِنْهُ لِلصَّلَاةِ، وَمَا كَانَ مِنْ عَجِينٍ عَجَنْتُمُوهُ فَاعْلِفُوهُ الْإِبِلَ، وَلَا تَأْكُلُوا مِنْهُ شَيْئًا، وَلَا يَخْرُجَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ اللَّيْلَةَ إلَّا وَمَعَهُ صَاحِبٌ لَهُ.
فَفَعَلَ النَّاسُ مَا أَمَرَهُمْ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، إلَّا أَنَّ رَجُلَيْنِ مِنْ بَنِي سَاعِدَةَ خَرَجَ أَحَدُهُمَا لِحَاجَتِهِ، وَخَرَجَ الْآخَرُ فِي طَلَبِ بَعِيرٍ لَهُ، فَأَمَّا الَّذِي ذَهَبَ لِحَاجَتِهِ فَإِنَّهُ خُنِقَ عَلَى مَذْهَبِهِ، وَأَمَّا الَّذِي ذَهَبَ فِي طَلَبِ بَعِيرِهِ فَاحْتَمَلَتْهُ الرِّيحُ، حَتَّى طَرَحَتْهُ بِجَبَلَيْ طيِّئ. فَأُخْبِرَ بِذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، فَقَالَ: أَلَمْ أَنْهَكُمْ


[١] أولى لَك: كلمة فِيهَا معنى التهديد. وَهِي اسْم سمى بِهِ الْفِعْل، وَمَعْنَاهَا فِيمَا قَالَ الْمُفَسِّرُونَ:
دَنَوْت من الهلكة.
[٢] هَذِه الْكَلِمَة: «شعرًا» سَاقِطَة فِي أ.
[٣] الخضيب: المخضوبة. والصرمة: جمَاعَة النّخل. وصفايا: كَثِيرَة الْحمل، وَأَصله فِي الْإِبِل، يُقَال: نَاقَة صفى، إِذا كَانَت غزيرة الدّرّ، وَجَمعهَا صفايا. والبسر: التَّمْر قبل أَن يطيب. وتحمما:
أَي أَخذ فِي الإرطاب فاسود.
[٤] أسمحت: انقادت. وشطره: نَحوه وقصده.

أَنْ يَخْرُجَ مِنْكُمْ أَحَدٌ إلَّا وَمَعَهُ صَاحِبُهُ! ثُمَّ دَعَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لِلَّذِي أُصِيبَ عَلَى مَذْهَبِهِ فَشُفِيَ، وَأَمَّا الْآخَرُ الَّذِي وَقَعَ بِجَبَلَيْ طيِّئ، فَإِنَّ طيِّئا أَهْدَتْهُ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ حِينَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ. وَالْحَدِيثُ عَنْ الرَّجُلَيْنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ عَبَّاسِ بْنِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ، وَقَدْ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ أَنْ قَدْ سَمَّى لَهُ الْعَبَّاسُ الرَّجُلَيْنِ، وَلَكِنَّهُ اسْتَوْدَعَهُ إيَّاهُمَا، فَأَبَى عَبْدُ اللَّهِ أَنْ يُسَمِّيَهُمَا لِي.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: بَلَغَنِي عَنْ الزُّهْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِالْحِجْرِ سَجَّى ثَوْبَهُ عَلَى وَجْهِهِ [١]، وَاسْتَحَثَّ [٢] رَاحِلَتَهُ، ثُمَّ قَالَ: لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ الَّذِينَ ظَلَمُوا إلَّا وَأَنْتُمْ بَاكُونَ، خَوْفًا أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَهُمْ. قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَلَمَّا أَصْبَحَ النَّاسُ وَلَا مَاءَ مَعَهُمْ شَكَوْا ذَلِكَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، فَأَرْسَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ سَحَابَةً فَأَمْطَرَتْ حَتَّى ارْتَوَى النَّاسُ، وَاحْتَمَلُوا حَاجَتَهُمْ مِنْ الْمَاءِ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيَدٍ، عَنْ رِجَالٍ مِنْ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ، قَالَ: قُلْتُ لِمَحْمُودِ: هَلْ كَانَ النَّاسُ يَعْرِفُونَ النِّفَاقَ فِيهِمْ؟ قَالَ: نعم وللَّه، إنْ كَانَ الرَّجُلُ لَيَعْرِفُهُ مِنْ أَخِيهِ وَمِنْ أَبِيهِ وَمِنْ عَمِّهِ وَفِي عَشِيرَتِهِ، ثُمَّ يَلْبَسُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا عَلَى ذَلِكَ. ثُمَّ قَالَ مَحْمُودٌ: لَقَدْ أَخْبَرَنِي رِجَالٌ مِنْ قَوْمِي عَنْ رَجُلٍ مِنْ الْمُنَافِقِينَ مَعْرُوفٌ نِفَاقُهُ، كَانَ يَسِيرُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ حَيْثُ سَارَ، فَلَمَّا كَانَ مِنْ أَمْرِ النَّاسِ [٣] بِالْحِجْرِ مَا كَانَ، وَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ حِينَ دَعَا، فَأَرْسَلَ اللَّهُ السَّحَابَةَ، فَأَمْطَرَتْ حَتَّى ارْتَوَى النَّاسُ قَالُوا: أَقْبَلْنَا عَلَيْهِ نَقُولُ: وَيْحَكَ، هَلْ بَعْدَ هَذَا شَيْءٌ! قَالَ: سَحَابَةٌ مَارَّةٌ.

(نَاقَةٌ لِلرَّسُولِ ضَلَّتْ وَحَدِيثُ ابْنِ اللُّصَيْتِ):
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: ثُمَّ إنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ سَارَ حَتَّى إذَا كَانَ بِبَعْضِ الطَّرِيقِ ضَلَّتْ نَاقَتُهُ، فَخَرَجَ أَصْحَابُهُ فِي طَلَبِهَا، وَعِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ


[١] سجى ثَوْبه على وَجهه: غطاه بِهِ.
[٢] استحث رَاحِلَته: استعجلها.
[٣] فِي أ: «من أَمر المَاء» . وَفِي الزرقانى: «من أَمر الْحجر» نقلا عَن ابْن إِسْحَاق.

رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، يُقَالُ لَهُ عُمَارَةُ بْنُ حَزْمٍ، وَكَانَ عَقَبِيًّا بدريّا، وَهُوَ غم بَنِي عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، وَكَانَ فِي رَحْلِهِ زَيْدُ بْنُ اللُّصَيْتِ الْقَيْنُقَاعِيُّ، وَكَانَ مُنَافِقًا.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُقَالُ: ابْنُ لُصَيْبٍ (بِالْبَاءِ) .
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيَدٍ، عَنْ رِجَالٍ مِنْ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ، قَالُوا [١]: فَقَالَ زَيْدُ بْنُ اللُّصَيْتِ، وَهُوَ فِي رَحْلِ عُمَارَةَ وَعُمَارَةُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ: أَلَيْسَ مُحَمَّدٌ يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ، وَيُخْبِرُكُمْ عَنْ خَبَرِ السَّمَاءِ، وَهُوَ لَا يَدْرِي أَيْنَ نَاقَتُهُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَعُمَارَةُ عِنْدَهُ: إنَّ رَجُلًا قَالَ: هَذَا مُحَمَّدٌ يُخْبِرُكُمْ أَنَّهُ نَبِيٌّ، وَيَزْعُمُ أَنَّهُ يُخْبِرُكُمْ بِأَمْرِ السَّمَاءِ وَهُوَ لَا يَدْرِي أَيْنَ نَاقَتُهُ، وَإِنِّي وَاَللَّهِ مَا أَعْلَمُ إلَّا مَا عَلَّمَنِي اللَّهُ وَقَدْ دَلَّنِي اللَّهُ عَلَيْهَا، وَهِيَ فِي هَذَا الْوَادِي، فِي شِعْبِ كَذَا وَكَذَا، قَدْ حَبَسَتْهَا شَجَرَةٌ بِزِمَامِهَا، فَانْطَلِقُوا حَتَّى تَأْتُونِي بِهَا، فَذَهَبُوا، فَجَاءُوا بِهَا. فَرَجَعَ عُمَارَةُ بْنُ حَزْمٍ إلَى رَحْلِهِ، فَقَالَ: وَاَللَّهِ لَعَجَبٌ مِنْ شَيْءٍ حَدَّثَنَاهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ آنِفًا، عَنْ مَقَالَةِ قَائِلٍ أَخْبَرَهُ اللَّهُ عَنْهُ بِكَذَا وَكَذَا، لِلَّذِي قَالَ زَيْدُ بْنُ لُصَيْتٍ، فَقَالَ رَجُلٌ مِمَّنْ كَانَ فِي رَحْلِ عُمَارَةَ وَلَمْ يَحْضُرْ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ: زَيْدٌ وَاَللَّهِ قَالَ هَذِهِ الْمَقَالَةَ قَبْلَ أَنْ تَأْتِيَ. فَأَقْبَلَ عُمَارَةُ عَلَى زَيْدٍ يَجَأُ فِي عُنُقِهِ [٢] وَيَقُولُ: إلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ، إنَّ فِي رَحْلِي لَدَاهِيَةً وَمَا أَشْعُرُ، اُخْرُجْ أَيْ عَدُوَّ اللَّهِ مِنْ رَحْلِي، فَلَا تَصْحَبْنِي.

(شَأْنُ أَبِي ذَرٍّ):
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَزَعَمَ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ زَيْدًا تَابَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ لَمْ يَزَلْ مُتَّهَمًا بِشَرٍّ حَتَّى هَلَكَ.
ثُمَّ مَضَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ سائرا، فَجعل بتخلّف عَنهُ الرجل، فَيَقُولُونَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، تَخَلَّفَ فُلَانٌ، فَيَقُولُ: دَعُوهُ، فَإِنْ يَكُ فِيهِ خَيْرٌ فَسَيَلْحَقُهُ اللَّهُ تَعَالَى بِكَمْ، وَإِنْ يَكُ غَيْرَ ذَلِكَ فَقَدْ أَرَاحَكُمْ اللَّهُ مِنْهُ، حَتَّى قِيلَ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ تَخَلَّفَ أَبُو ذَرٍّ، وَأَبْطَأَ بِهِ بَعِيرُهُ، فَقَالَ: دَعُوهُ، فَإِنْ يَكُ فِيهِ


[١] هَذَا السَّنَد كُله سَاقِط من أ.
[٢] يجَأ فِي عُنُقه: يطعنه فِي عُنُقه.

خَيْرٌ فَسَيَلْحَقُهُ اللَّهُ بِكَمْ، وَإِنْ يَكُ غَيْرَ ذَلِكَ فَقَدْ أَرَاحَكُمْ اللَّهُ مِنْهُ، وَتَلَوَّمَ [١] أَبُو ذَرٍّ عَلَى بَعِيرِهِ، فَلَمَّا أَبْطَأَ عَلَيْهِ، أَخَذَ مَتَاعَهُ فَحَمَلَهُ عَلَى ظَهْرِهِ، ثُمَّ خَرَجَ يَتْبَعُ أَثَرَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ مَاشِيًا. وَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ فِي بَعْضِ مَنَازِلِهِ، فَنَظَرَ نَاظِرٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّ هَذَا الرَّجُلَ يَمْشِي عَلَى الطَّرِيقِ وَحْدَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: كُنْ أَبَا ذَرٍّ [٢] . فَلَمَّا تَأَمَّلَهُ الْقَوْمُ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هُوَ وَاَللَّهِ أَبُو ذَرٍّ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: رَحِمَ اللَّهُ أَبَا ذَرٍّ، يَمْشِي وَحْدَهُ، وَيَمُوتُ وَحْدَهُ، وَيُبْعَثُ وَحْدَهُ. وَقَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي بُرَيْدَةُ بْنُ سُفْيَانَ الْأَسْلَمِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: لَمَّا نَفَى عُثْمَانُ أَبَا ذَرٍّ إلَى الرَّبَذَةِ [٣]، وَأَصَابَهُ بِهَا قَدَرُهُ، لَمْ يَكُنْ مَعَهُ أَحَدٌ إلَّا امْرَأَتُهُ وَغُلَامُهُ، فَأَوْصَاهُمَا أَنْ اغْسِلَانِي وَكَفِّنَانِي، ثُمَّ ضَعَانِي عَلَى قَارِعَةِ الطَّرِيقِ، فَأَوَّلُ رَكْبٍ يَمُرُّ بِكَمْ فَقُولُوا: هَذَا أَبُو ذَرٍّ صَاحِبُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَأَعِينُونَا عَلَى دَفْنِهِ. فَلَمَّا مَاتَ فَعَلَا ذَلِكَ بِهِ. ثُمَّ وَضَعَاهُ عَلَى قَارِعَةِ الطَّرِيقِ، وَأَقْبَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ فِي رَهْطٍ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ عُمَّارٍ، فَلَمْ يَرُعْهُمْ إلَّا بِالْجِنَازَةِ عَلَى ظَهْرِ الطَّرِيقِ، قَدْ كَادَتْ الْإِبِلُ تَطَؤُهَا، وَقَامَ إلَيْهِمْ الْغُلَامُ. فَقَالَ: هَذَا أَبُو ذَرٍّ صَاحِبُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَأَعِينُونَا عَلَى دَفْنِهِ. قَالَ: فَاسْتَهَلَّ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ يَبْكِي وَيَقُولُ: صَدَقَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، تَمْشِي وَحْدَكَ، وَتَمُوتُ وَحْدَكَ، وَتُبْعَثُ وَحْدَكَ. ثُمَّ نَزَلَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ فَوَارَوْهُ، ثُمَّ حَدَّثَهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ حَدِيثَهُ، وَمَا قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِي مَسِيرِهِ إلَى تَبُوكَ.

(تَخْذِيلُ الْمُنَافِقِينَ لِلْمُسْلِمَيْنِ وَمَا نَزَلَ فِيهِمْ):
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَدْ كَانَ رَهْطٌ مِنْ الْمُنَافِقِينَ، مِنْهُمْ وَدِيعَةُ بْنُ ثَابِتٍ، أَخُو بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، وَمِنْهُمْ رَجُلٌ مِنْ أَشْجَعَ، حَلِيفٌ لِبَنِي سَلِمَةَ، يُقَالُ لَهُ:
مُخَشِّنُ بْنُ حُمَيِّرٍ- قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُقَالُ مَخْشِيٌّ- يُشِيرُونَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ


[١] تلوم: تمكث وتمهل.
[٢] كن أَبَا ذرّ: لَفظه لفظ الْأَمر، وَمَعْنَاهُ الدُّعَاء، أَي أَرْجُو الله أَن تكون أَبَا ذَر.
[٣] الرَّبَذَة: مَوضِع قرب الْمَدِينَة.

ﷺ وَهُوَ مُنْطَلِقٌ إلَى تَبُوكَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضِ: أَتَحْسِبُونَ جَلَّادَ بَنِي الْأَصْفَرِ كَقِتَالِ الْعَرَبِ بَعْضُهُمْ بَعْضًا! وَاَللَّهِ لَكَأَنَّا بِكَمْ غَدًا مُقَرَّنِينَ فِي الْحِبَالِ، إرْجَافًا وَتَرْهِيبًا لِلْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ مُخَشِّنُ بْنُ حُمَيِّرٍ: وَاَللَّهِ لَوَدِدْتُ أَنِّي أُقَاضِي عَلَى أَنْ يُضْرَبُ كُلَّ (رجل) [١] منّا مائَة جَلْدَةٍ، وَإِنَّا نَنْفَلِتُ أَنْ يَنْزِلَ فِينَا قُرْآنٌ لِمَقَالَتِكُمْ هَذِهِ.
وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِيمَا بَلَغَنِي- لِعَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ أَدْرِكْ الْقَوْمَ، فَإِنَّهُمْ قَدْ احْتَرَقُوا [٢]، فَسَلْهُمْ عَمَّا قَالُوا، فَإِنْ أَنْكَرُوا فَقُلْ: بَلَى، قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا. فَانْطَلَقَ إلَيْهِمْ عَمَّارٌ، فَقَالَ ذَلِكَ لَهُمْ: فَأَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَعْتَذِرُونَ إلَيْهِ، فَقَالَ وَدِيعَةُ بْنُ ثَابِتٍ، وَرَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَاقِفٌ عَلَى نَاقَتِهِ، فَجَعَلَ يَقُولُ وَهُوَ آخِذٌ بِحَقَبِهَا [٣]: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ ٩: ٦٥.
وَقَالَ مُخَشِّنُ بْنُ حُمَيِّرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَعَدَ بِي اسْمِي وَاسْمُ أَبِي، وَكَأَنَّ الَّذِي عُفِيَ عَنْهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مُخَشِّنُ بْنُ حُمَيِّرٍ، فَتَسَمَّى عَبْدَ الرَّحْمَنِ، وَسَأَلَ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَقْتُلَهُ شَهِيدًا لَا يُعْلَمُ بِمَكَانِهِ، فَقُتِلَ يَوْمَ الْيَمَامَةِ، فَلَمْ يُوجَدْ لَهُ أَثَرٌ.

(الصُّلْحُ بَيْنَ الرَّسُولِ وَيُحَنَّةَ):
وَلَمَّا انْتَهَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إلَى تَبُوكَ، أَتَاهُ يُحَنَّةُ بْنُ رُؤْبَةَ، صَاحِبُ أَيْلَةَ، فَصَالَحَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، وَأَعْطَاهُ الْجِزْيَةَ، وَأَتَاهُ أَهْلَ جَرْبَاءَ وَأَذْرُحَ، فَأَعْطَوْهُ الْجِزْيَةَ، فَكَتَبَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لَهُمْ كِتَابًا، فَهُوَ عِنْدَهُمْ.

(كِتَابُ الرَّسُولِ لِيُحَنَّةَ):
فَكَتَبَ لِيُحَنَّةَ بْنِ رُؤْبَةَ:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ: هَذِهِ أَمَنَةٌ مِنْ اللَّهِ وَمُحَمّد النَّبِيِّ رَسُولِ اللَّهِ لِيُحَنَّةَ


[١] زِيَادَة عَن أ
[٢] كَذَا فِي م، ر. واحترقوا: هَلَكُوا، وَذَلِكَ للَّذي كَانُوا يَخُوضُونَ فِيهِ. وَفِي أ «اخترفوا»
[٣] الحقب (بِوَزْن سَبَب): حَبل يشد على بطن الْبَعِير، سوى الحزام الّذي يشد فِيهِ الرحل.

ابْن رُؤْبَةَ وَأَهْلِ أَيْلَةَ، سُفُنُهُمْ وَسَيَّارَتُهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ: لَهُمْ ذِمَّةُ اللَّهِ، وَذِمَّةُ مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ، وَمَنْ كَانَ مَعَهُمْ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ، وَأَهْلِ الْيَمَنِ، وَأَهْلِ الْبَحْرِ، فَمَنْ أَحْدَثَ مِنْهُمْ حَدَثًا، فَإِنَّهُ لَا يَحُولُ مَالُهُ دُونَ نَفْسِهِ. وَإِنَّهُ طَيِّبٌ لِمَنْ أَخَذَهُ مِنْ النَّاسِ، وَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ أَنْ يُمْنَعُوا مَاءً يَرِدُونَهُ، وَلَا طَرِيقًا يُرِيدُونَهُ، مِنْ بَرٍّ أَوْ بَحْرٍ.

(حَدِيثُ أَسْرِ أُكَيْدِرٍ ثُمَّ مُصَالَحَتُهُ):
ثُمَّ إنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ دَعَا خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ، فَبَعَثَهُ إلَى أُكَيْدِرِ دَوْمَةَ، وَهُوَ أُكَيْدِرُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، رَجُلٌ مِنْ كِنْدَةَ كَانَ مَلِكًا عَلَيْهَا، وَكَانَ نَصْرَانِيًّا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لِخَالِدِ: إنَّكَ سَتَجِدُهُ يَصِيدُ الْبَقَرَ. فَخَرَجَ خَالِدٌ، حَتَّى إذَا كَانَ مِنْ حِصْنِهِ بِمَنْظَرِ الْعَيْنِ، وَفِي لَيْلَةٍ مُقْمِرَةٍ صَائِفَةٍ، وَهُوَ عَلَى سَطْحٍ لَهُ، وَمَعَهُ امْرَأَتُهُ، فَبَاتَتْ الْبَقَرُ تَحُكُّ بِقُرُونِهَا بَابَ الْقَصْرِ، فَقَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ: هَلْ رَأَيْتُ مِثْلَ هَذَا قَطُّ؟ قَالَ: لَا وَاَللَّهِ! قَالَتْ: فَمَنْ يَتْرُكُ هَذِهِ؟ قَالَ:
لَا أَحَدَ. فَنَزَلَ فَأَمَرَ بِفَرَسِهِ، فَأُسْرِجَ لَهُ، وَرَكِبَ مَعَهُ نَفَرٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، فِيهِمْ أَخٌ يُقَالُ لَهُ حَسَّانُ. فَرَكِبَ، وَخَرَجُوا مَعَهُ بِمُطَارِدِهِمْ. فَلَمَّا خَرَجُوا تَلَقَّتْهُمْ خَيْلُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَأَخَذَتْهُ، وَقَتَلُوا أَخَاهُ، وَقَدْ كَانَ عَلَيْهِ قَبَاءٌ مِنْ دِيبَاجٍ مُخَوَّصٌ بِالذَّهَبِ، فَاسْتَلَبَهُ خَالِدٌ، فَبَعَثَ بِهِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قَبْلَ قُدُومِهِ بِهِ عَلَيْهِ.
قَالَ ابْنَ إسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي عَاصِم بن عَمْرو بْنُ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: رَأَيْتُ قَبَاءَ أُكَيْدِرٍ حِينَ قَدِمَ بِهِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَجَعَلَ الْمُسْلِمُونَ يَلْمِسُونَهُ بِأَيْدِيهِمْ، وَيَتَعَجَّبُونَ مِنْهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: أَتَعْجَبُونَ من هَذَا؟ فو الّذي نَفْسِي بِيَدِهِ لَمَنَادِيلُ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ فِي الْجَنَّةِ أَحْسَنُ مِنْ هَذَا. قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: ثُمَّ إنَّ خَالِدًا قَدِمَ بِأُكَيْدِرٍ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَحَقَنَ لَهُ دَمَهُ، وَصَالَحَهُ عَلَى الْجِزْيَةِ، ثُمَّ خَلَّى سَبِيلَهُ، فَرَجَعَ إلَى قَرْيَتِهِ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ طيِّئ: يُقَالُ لَهُ بُجَيْرُ بْنُ بُجْرَةَ، يَذْكُرُ قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ لِخَالِدِ: إنَّكَ سَتَجِدُهُ يَصِيدُ الْبَقَرَ، وَمَا صَنَعَتْ الْبَقَرُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ حَتَّى اسْتَخْرَجَتْهُ، لِتَصْدِيقِ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ:

تَبَارَكَ سَائِقُ الْبَقَرَاتِ إنِّي ... رَأَيْتُ اللَّهَ يَهْدِي كُلَّ هَادِ
فَمَنْ يَكُ حَائِدًا عَنْ ذِي تَبُوكِ ... فَإِنَّا قَدْ أُمِرْنَا بِالْجِهَادِ

(الرُّجُوعُ إلَى الْمَدِينَةِ):
فَأَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِتَبُوكَ بِضْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً، لَمْ يُجَاوِزْهَا، ثُمَّ انْصَرَفَ قَافِلًا إلَى الْمَدِينَةِ.

(حَدِيثُ وَادِي الْمُشَقَّقِ وَمَائِهِ):
وَكَانَ فِي الطَّرِيقِ مَاءٌ يَخْرُجُ مِنْ وَشَلٍ [١]، مَا يَرْوِي الرَّاكِبَ وَالرَّاكِبَيْنِ وَالثَّلَاثَةَ، بِوَادٍ يُقَالُ لَهُ وَادِي الْمُشَقَّقِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: مَنْ سَبَقَنَا إلَى ذَلِكَ الْوَادِي [٢] فَلَا يَسْتَقِيَنَّ مِنْهُ شَيْئًا حَتَّى نَأْتِيَهُ. قَالَ: فَسَبَقَهُ إلَيْهِ نَفَرٌ مِنْ الْمُنَافِقِينَ، فَاسْتَقَوْا مَا فِيهِ، فَلَمَّا أَتَاهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَقَفَ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَرَ فِيهِ شَيْئًا.
فَقَالَ: مَنْ سَبَقَنَا إلَى هَذَا الْمَاءِ؟ فَقِيلَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فُلَانٌ وَفُلَانٌ، فَقَالَ: أَوْ لَمْ أَنْهَهُمْ أَنْ يَسْتَقُوا مِنْهُ شَيْئًا حَتَّى آتِيَهُ! ثُمَّ لَعَنَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، وَدَعَا عَلَيْهِمْ. ثُمَّ نَزَلَ فَوَضَعَ يَدَهُ تَحْتَ الْوَشَلِ، فَجَعَلَ يَصُبُّ فِي يَدِهِ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَصُبَّ، ثُمَّ نَضَحَهُ بِهِ، وَمَسَحَهُ بِيَدِهِ، وَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِمَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَدْعُوَ بِهِ، فَانْخَرَقَ مِنْ الْمَاءِ- كَمَا يَقُولُ مَنْ سَمِعَهُ- مَا إنَّ لَهُ حِسًّا كَحِسِّ الصَّوَاعِقِ، فَشَرِبَ النَّاسُ، وَاسْتَقَوْا حَاجَتَهُمْ مِنْهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: لَئِنْ بَقِيتُمْ أَوْ مَنْ بَقِيَ مِنْكُمْ لَتَسْمَعُنَّ بِهَذَا الْوَادِي، وَهُوَ أَخْصَبُ مَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَمَا خَلْفَهُ.

(وَفَاةُ ذِي الْبِجَادَيْنِ وَقِيَامُ الرَّسُولِ عَلَى دَفْنِهِ):
قَالَ: وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ التَّيْمِيُّ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ كَانَ يُحَدِّثُ، قَالَ: قُمْتُ مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ، وَأَنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، قَالَ: فَرَأَيْتُ شُعْلَةً مِنْ نَارٍ فِي نَاحِيَةِ الْعَسْكَرِ، قَالَ: فَاتَّبَعْتهَا أَنْظُرُ إلَيْهَا، فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، وَإِذَا عَبْدُ اللَّهِ ذُو الْبِجَادَيْنِ


[١] الوشل: حجر أَو جبل يقطر مِنْهُ المَاء قَلِيلا قَلِيلا، وَهُوَ أَيْضا الْقَلِيل من المَاء.
[٢] فِي أ «: ذَلِك المَاء» .

الْمُزَنِيُّ قَدْ مَاتَ، وَإِذَا هُمْ قَدْ حَفَرُوا لَهُ، وَرَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِي حُفْرَتِهِ، وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ يُدَلِّيَانِهِ إلَيْهِ، وَهُوَ يَقُولُ: أَدْنِيَا إلَيَّ أَخَاكُمَا، فَدَلَّيَاهُ إلَيْهِ، فَلَمَّا هَيَّأَهُ لِشِقِّهِ قَالَ: اللَّهمّ إنِّي أَمْسَيْتُ رَاضِيًا عَنْهُ، فَارْضَ عَنْهُ. قَالَ: يَقُولُ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: يَا لَيْتَنِي كُنْتُ صَاحِبَ الْحُفْرَةِ.

(سَبَبُ تَسْمِيَتِهِ ذَا الْبِجَادَيْنِ):
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَإِنَّمَا سُمِّيَ ذَا الْبِجَادَيْنِ، لِأَنَّهُ كَانَ يُنَازِعُ إلَى الْإِسْلَامِ، فَيَمْنَعُهُ قَوْمُهُ مِنْ ذَلِكَ، وَيُضَيِّقُونَ عَلَيْهِ، حَتَّى تَرَكُوهُ فِي بِجَادِ لَيْسَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ، وَالْبِجَادُ:
الْكِسَاءُ الْغَلِيظُ الْجَافِي، فَهَرَبَ مِنْهُمْ إلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَلَمَّا كَانَ قَرِيبًا مِنْهُ، شَقَّ بِجَادَهُ بِاثْنَيْنِ، فَاِتَّزَرَ بِوَاحِدِ، وَاشْتَمَلَ بِالْآخَرِ، ثُمَّ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، فَقِيلَ لَهُ: ذُو الْبِجَادَيْنِ لِذَلِكَ،. وَالْبِجَادُ أَيْضًا: الْمِسْحُ، قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:
كَأَنَّ أَبَانًا فِي عَرَانِينِ [١] وَدْقِهِ ... كَبِيرُ أُنَاسٍ فِي بِجَادٍ مُزَمَّلِ

(سُؤَالُ الرَّسُولِ لِأَبِي رُهْمٍ عَمَّنْ تَخَلَّفَ):
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَذَكَرَ ابْنُ شِهَابٍ الزُّهْرِيُّ، عَنْ ابْنِ أُكَيْمَةَ اللَّيْثِيِّ، عَنْ ابْنِ أَخِي أَبِي رُهْمٍ الْغِفَارِيِّ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا رُهْمٍ كُلْثُومَ بْنَ الْحُصَيْنِ، وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ الَّذِينَ بَايَعُوا تَحْتَ الشَّجَرَةِ، يَقُولُ: غَزَوْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ غَزْوَةَ تَبُوكَ، فَسِرْتُ ذَاتَ لَيْلَةٍ مَعَهُ وَنَحْنُ بِالْأَخْضَرِ قَرِيبًا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَأَلْقَى الله علينا النّفاس [٢] فَطَفِقْتُ أَسْتَيْقِظُ وَقَدْ دَنَتْ رَاحِلَتِي مِنْ رَاحِلَةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَيُفْزِعُنِي دُنُوُّهَا مِنْهُ، مَخَافَةَ أَنْ أُصِيبَ رِجْلَهُ فِي الْغَرْزِ [٣]، فَطَفِقْتُ أَحُوزُ [٤] رَاحِلَتِي عَنْهُ، حَتَّى غَلَبَتْنِي عَيْنَيَّ فِي بَعْضِ الطَّرِيقِ، وَنَحْنُ فِي بَعْضِ اللَّيْلِ، فَزَاحَمَتْ رَاحِلَتِي رَاحِلَةَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَرِجْلُهُ فِي الْغَرْزِ، فَمَا اسْتَيْقَظْتُ


[١] فِي أ: «أفانين» .
[٢] فِي أ: «وَألقى على النعاس» .
[٣] الغرز الرحل: بِمَنْزِلَة الركاب للسرج.
[٤] أحوز: أبعد.

إلَّا بِقَوْلِهِ: حَسَّ [١]، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اسْتَغْفِرْ لِي. فَقَالَ: سِرْ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَسْأَلُنِي عَمَّنْ تَخَلَّفَ عَنْ بَنِي غِفَارٍ، فَأَخْبَرَهُ بِهِ، فَقَالَ وَهُوَ يَسْأَلُنِي: مَا فَعَلَ النَّفَرُ الْحُمْرُ الطِّوَالُ الثِّطَاطُ [٢] . فَحَدَّثْتُهُ بِتَخَلُّفِهِمْ. قَالَ:
فَمَا فَعَلَ النَّفَرُ السُّودُ الْجِعَادُ الْقِصَارُ؟ قَالَ: قُلْتُ: وَاَللَّهِ مَا أَعْرِفُ هَؤُلَاءِ مِنَّا [٣] . قَالَ:
بَلَى، الَّذِينَ لَهُمْ نَعَمٌ بِشَبَكَةِ شَدَخٍ [٤]، فَتَذَكَّرْتهمْ فِي بَنِي غِفَارٍ، وَلَمْ أَذْكُرْهُمْ حَتَّى ذَكَرْتُ أَمْ لَهُمْ رَهْطٌ مِنْ أَسْلَمَ كَانُوا حُلَفَاءَ فِينَا، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أُولَئِكَ رَهْطٌ مِنْ أَسْلَمَ، حَلْفَاءُ فِينَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: مَا مَنَعَ أَحَدٌ أُولَئِكَ حِينَ تَخَلَّفَ أَنْ يَحْمِلَ عَلَى بَعِيرٍ مِنْ إبِلِهِ امْرَأً نَشِيطًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، إنَّ أَعَزَّ أَهْلِي عَلَيَّ أَنْ يَتَخَلَّفَ عَنِّي الْمُهَاجِرُونَ مِنْ قُرَيْشٍ وَالْأَنْصَارُ وَغُفَارٌ وَأَسْلَمُ.

 


google-playkhamsatmostaqltradent